التقرير الأمريكي لحقوق الإنسان لعام 2022
أبدأ مقالتي بالتساؤلات الآتية: كيف تكون الولايات المتحدة الأمريكية في موقفين متناقضين في آن واحد بشأن حقوق الإنسان، وهما الدفاع عنها خارج حدودها، وانتهاكها داخل حدودها ؟ ومن نصبها كمدافعة عن حقوق الإنسان في العالم؟ كيف أصبحت واشنطن تشكل قلقا بسبب تقاريرها السنوية حول أوضاع حقوق الإنسان؟ هل ستظل تقاريرها مرعبة بعد التحولات الدراماتيكية للجيوسياسية الإقليمية، أبرزها، المصالحة السعودية الإيرانية، وعودة العلاقات السعودية السورية.. الخ، وهي تحولات تحدث بوساطتين صينية وروسية، أي بعيدا عن واشنطن، وحتى قبل هذه التحولات فقد فقدت واشنطن وتقاريرها التأثير على بعض الدول، وبالذات الرياض.
ونطرح تلكم التساؤلات من وجود مؤسسات دولية تابعة للأمم المتحدة كمفوضية الأمم المتحدة السامية، وتتعاون مع مجموعة منظمات دولية بما فيها منظمة العمل الدولية، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، واليونيسيف، ومجلس حقوق الإنسان، والمحكمة الجنائية الدولية.. كما أن هناك مؤسسات مستقلة، ومن اختصاصاتها متابعة حقوق الإنسان وحرياته في العالم، فلماذا تحشر واشنطن نفسها في قضايا داخلية للدول، وتقاريرها السنوية حول حقوق الإنسان تبنى عليها سياسات أمريكية، قد تصل لعقوبات اقتصادية على أنظمة ورموز فيها؟ وخروج واشنطن من الكثير من هذه المنظمات الدولية قبل أن ترجع لبعضها في عهد الرئيس بايدن، يقربنا كثيرا من خلفية الاستفراد الأمريكي بملف حقوق الإنسان، وحتى لما عادت لمجلس حقوق الإنسان، لم تلتزم بكل توصياته، وإنما تختار ما تشاء.
وقد أصبح الوعي العربي يدرك الآن أن الاهتمام الأمريكي بحقوق الإنسان ليس دفاعا عن الحق المجرد، ولا من أجل الإنسانية، وإنما لتحقيق أجندات أمريكية سياسية واقتصادية وأمنية واضحة، نفتح هذا الملف بعد أن صدرت وزارة الخارجية الأمريكية يوم الاثنين الماضي تقريرها السنوي حول ممارسات حقوق الإنسان في العالم لعام 2022، وخصصت للدول الخليجية بنودا لن نتوقف عندها تصديقا أو دحضا لها، لأننا لسنا هنا من يمثل الرد، ولن نتمثله رغم ما قد يتعرض إليه تحليل هذا المقال ضمن سياقاته الموضوعية، وأول ما لفت انتباهنا في التقرير بشأن ممارسات حقوق الإنسان في دول مجلس التعاون الخليجية العموميات رغم أنه تحدث عن كل دولة بانفراد، مثل القوانين التي تجرم السلوك الجنسي المثلي بالتراضي بين البالغين، والإتجار بالبشر، والحرية الدينية.
ونلاحظ انتقائية ملموسة للقضايا التي تخدم أهم الأجندات الأمريكية / الغربية المعاصرة، والتي يصرفون عليها وبصورة علنية أموالا طائلة مباشرة أو غير مباشرة لدعم نخب محلية شاذة عن الإجماع لنشر المثلية والإلحاد والنسوية، وفي مقالات سابقة، بيّنا فيها تحويل وزارة الخارجية الأمريكية برنامج مساعداتها المالية الخارجية لدعم النخب والتيارات الشاذة، وصناعة أخرى لتوسيع القاعدة، وكذلك تخصيص الاتحاد الأوروبي موازنة للغرض نفسه، وعندما يرتفع أي صوت مخالف لإجماع الأغلبية، فوراءه دعم خارجي أو محاولة لكسب هذا الدعم، والأصوات الشاذة ترتفع هذه الأيام بصورة متصاعدة في كل دولة خليجية.
وتهدف إدارة الرئيس بايدن من ذلك إلى قلب معادلة حقوق الأغلبية في المجتمعات الخليجية عبر إطلاق الحريات الفردية على مصاريعها، وهي تعلم أنها بذلك ستفتت الجبهات الداخلية في كل دولة، وهذا من بين مستهدفاتها الأساسية، بالإضافة إلى المستهدف الفكري الذي تؤمن به، وتطبقه ذاتيا، وتسعى إلى نشره في المنطقة، مما يأخذ التطبيق هنا بعدا ذاتيا إلى كونه أجندات سياسية، وهذا يعكس لنا حجم المخاطر التي ستواجه منظومة القيم والأخلاق في المنطقة خلال المرحلة المقبلة، فهل يمكن أن تضحي دول المنطقة بالأغلبية لصالح الأقلية ؟ هنا منطقة تفكير عميقة تستحق الاهتمام، فالاستقرار الاجتماعي وحتى السياسي الذي تم تأسيسه في المنطقة طوال العقود الماضية، قام على أركان أساسية هي، شعبية الأنظمة، والاعتداد بالمكون الثيولوجي/ الديني للشعوب، والخدمات الاجتماعية الحكومية المجانية، وتأمين أهم الحقوق الأساسية كالعمل والمسكن والمشرب والتعليم والصحة.. إلخ فكيف الآن إذا ما انتصرت الأقلية على الأغلبية في ظل تقليص الخدمات الحكومية.. الخ؟.
وحتى مفهوم الأقلية هو مصطنع لدواع سياسية، فلا يمكن الحديث عن المفهوم في الخليج، هناك حالات ستزداد كظاهرة صوتية، وستتقاطع معها الأجندات الأجنبية، والأخطر، أن تستقطب الشباب الخليجي في ظل ارتفاع حالات البطالة وإطلاق الحريات الفردية، والتسهيلات التي تمنح للمستثمرين الأجانب من الأبواب السرية، والسماح لهم بنقل مؤسساتهم الأيديولوجية والتعليمية معهم، وفتحها للديموغرافيات في الخليج، وقد أصبحت المجتمعات الخليجية مكشوفة لكل التحديات بسبب التحولات المالية والاقتصادية، وعدم وجود خطة إصلاحية اجتماعية ممنهجة تأخذ بعين الاعتبار التحولات المالية وتأثيراتها على المجتمعات.
وقد جاء التعميم الأمريكي كذلك في قضايا القيود على حرية التعبير والإعلام وعدم المساواة الاقتصادية، والاعتقالات غير المبررة والملاحقات القضائية للصحفيين، والسجن التعسفي.. إلخ، وبدا وكأنه يعمم وضع دولة ما -مستهدفة بذاتها- على كل الدول، أو هكذا يراد لهذه الدولة أن تظهر صورتها أمام الرأي العام العالمي، ومعها بالتبعية الدول الأخرى، وهذا تفكير غربي / أمريكي قديم، حيث كان مثلا، ينظر للتشدد المذهبي في الخليج، وكأنه عام يسود الجغرافيات الخليجية الست دون تفرقة، كما كان ينظر لوضع المرأة الخليجية من خلال وضع دولة واحدة، فكيف عاد هذا التفكير في مرحلة التحولات الدراماتيكية للجيوسياسية الإقليمية ؟.
ولو بحثنا عن مصادر التقارير الأمريكية السنوية، فسنجد سفاراتها في الخارج، وبدورها تستقي معلوماتها من ناشطين ونخب داخل مجتمعاتهم، وقد كونت معهم علاقة تحت مظلة أصدقاء أمريكا، ولو كانت الخارجية الأمريكية جادة في رصدها لانتهاكات حقوق الإنسان وحرياته في المنطقة، فإنها ستتعاون مع المنظمات الدولية المتخصصة التابعة للأمم المتحدة وحتى المستقلة ذات المهنية المقبولة، فلو تعاونت أو استندت على تقاريرها السنوية، فقد تكسب في مزاعمها شرعية القبول حتى لو سيّستها، لأن قضايا حقوق الإنسان من اختصاصات هذه المنظمات، إذ لا يعقل أن تكون الخارجية الأمريكية الخصم والحكم في الوقت نفسه، ثم تنصب نفسها بديلا عن مجلس الأمن أو محكمة الجنايات العالمية، عندما تقرر عقوبات على دول أو شخصيات فيها.
ولن تتعاون الخارجية الأمريكية مع تلكم المؤسسات الدولية، لأنها سنويا كمنظمة العفو الدولية تنتقد سجل حقوق الإنسان في أمريكا، وقد اطلعت على تقاريرها لآخر ثلاث سنوات، وذهلت مما ذكرته عن العنف ضد المرأة المنتمية للسكان الأصليين في أمريكا، وكذلك عن انتهاكات حقوق اللاجئين والمهاجرين، والاحتجاز التعسفي، وقضية الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين، ودور الطائرات المسيرة الأمريكية في مناطق النزاع في المنطقة في إزهاق أرواح المدنيين، وهناك مشروعات تشريعية لتقييد حرية التجمع... والقائمة طويلة.
ومن خلال قراءتنا للتقارير الدولية المستقلة عن أوضاع حقوق الإنسان في أمريكا، لم نجد الفارق كبيرا بينها وبين نظيراتها في العالم الثالث كما تصورها تقارير خارجيتها، وهذا شأن الغرب كله، وحتى لو عملنا مقارنة بين التقارير الدولية عن أمريكا، والتقارير الأمريكية عن الخليج، فسنجد التشابه المنسوخ في القضايا ذاتها، كما أن مستقبل حقوق الإنسان في أمريكا يكتنفه تعاظم المخاطر سواء ظل بايدن في السلطة أم عاد مجددا ترامب، وعودته - إن حدثت - ستكون بعد كسب اليمين الأمريكي المتطرف.
ومهما يكن فواشنطن لم تعد مرعبة ولا حتى تثير القلق، وقد فقدت سلاح التلويح بحقوق الإنسان بعد التحولات الجيوسياسية الإقليمية الكبرى، وستظل قضية حقوق الإنسان وحرياته داخلية بامتياز من حيث مخاطرها الفعلية، لأن المساس بمنظومة الحقوق والحريات قد تصبح مفتوحة ودون قيود بسبب طغيان السياسات المالية، وقد يلتقي التأثير الأجنبي مع تداعياتها، فلدى واشنطن أصدقاء في كل دولة، بل، وفي كل منطقة مهمة في كل دولة، لذلك، فينبغي على الدول الخليجية تحصين قوتها المدنية / جبهتها الداخلية أولا، وسيكون لنا مقال عن دور الآليات الوطنية المستقلة في كل دولة خليجية في ضمانة حقوق الإنسان وحرياته، وكيف يمكن أن تسحب البساط من تحت التقارير الأمريكية والأجنبية.