التحولات الدينية في الخليج
عقد مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة قطر ندوة حوارية بعنوان: «إلى أين يتجه الخليج فكريا؟ قراءة في تحولات المشهد الفكري الخليجي»، وذلك يومي الجمعة والسبت 17 و18 من فبراير الحالي، وكان من ضمن المحاور محور التحول الديني، وكنتُ من ضمن المتحدثين حوله، حيث طرحت الندوة خمسة أسئلة: ما حجم التحولات في أنساق التفكير الديني الخليجي، وما مظاهرها؟، وما مدى ارتباط الوعي الديني الخليجي بالمصادر الدينية التقليدية، وما هي الآثار المترتبة على ذلك؟ وما الجديد في أولويات البحث المعرفي الديني في الخليج، وما طبيعة جدل الهويات الدينية في المرحلة الحالية؟ وما مآلات اتجاهات التفكير الديني الخليجي، وأي شكل من الأشكال سيكون سائدا مستقبلا؟ وأخيرا ما هو الشكل المتوقع لعلاقة الديني بالسياسي في مستقبل المجتمعات الخليجية؟
وفي نظري المتواضع هناك فارق في التراتبية بين التفكير الديني، وبين الفكر الديني، فالثاني نتيجة للأول، ومترتب عليه، ولما نتحدث عن التفكير فنحن نتحدث عن الأدوات ومساحة التعقل وظرفية الزمان والمكان، ولما نضيفه إلى الديني فنحن نتحدث عن النص وما بعد النص، وحرفية التعامل معه.
فالتحولات الدينية في أنساق التفكير الديني الخليجي ارتبط بحركة الاجتماع البشري في المنطقة، إلا أن هذه التحولات كانت بطيئة التفاعلية، وتفاعلت زمنا وفق: السلطة والمجتمع، وفي العقد الثاني من القرن العشرين الميلادي، وبداية استقرار الدولة القُطرية تأثر الفكر الديني بشكل عام بالاتجاه الاشتراكي، ونظرية الثورة والعدالة الاجتماعية، كما أنه تأثر بخطاب الإسلام الحركي، ونظرية عودة الخلافة وحركة الصحوة، بيد أنه بعد حادثتي جهيمان والثورة الإيرانية تمظهر الخطاب الديني في: أسلمة الدولة، مع شيوع التيارات السلفية التقليدية، وتزاوجها مع حركة الإصلاح والتجديد والحركي تارة [السرورية والصحوية مثلا]، واختلافها تارات أخرى [كالجامية مثلا]، والسلفية والجامية والإسلام الحركي ليس بالمعنى المذهبي الحرفي في المدرسة السنية، فقد لازم المذاهب الأخرى في الخليج بصور متقاربة، أو لها بعض الخصوصية متزاوجة معها كما في الإمامية والإباضية، إذا ما استثنينا الإسماعيلية لباطنيتها، والزيدية لقلة عددها في الدول الخليجية الست.
واليوم نتيجة الانفتاح على العالم، وظهور اتجاهات تبلورت بصورة أكبر، فهناك تياران: تيار الأسلمة المتمثل في درجات من الخط التقليدي إلى الخط الإصلاحي والتجديدي، وتيار الأنسنة بدرجه من: الأنسنة بمعنى الحاكمية، والأنسنة في تأريخية الأحكام، وتيار يحاول المزاوجة بينهما تحت مظلة الأنسنة بمعنى العللية أو الذائقة الإنسانية، وحركة الأنسنة لها اتجاهات رأسية، وإن كانت ليست أفقية بشكل كبير، إلا أن اتجاه الأسلمة بأفقيته لم يعد محصورا في الاتجاهات السلفية الحرفية والتراثية، بقدر ما يوجد هناك تمدد أيضا في الاتجاهات القرآنية والاتجاهات العرفانية الغنوصية.
حركتا الأسلمة والأنسنة لها رؤيتها مع المصادر الدينية، والآلة المتعامل معها، : فالمصادر الدينية على مستوى الآلة أو على مستوى النص، مرتبطة بحسب الاتجاهات المدرسية، ولا يمكن فصلها عنه، فمن حيث النص مثلا هناك الخطاب العام الذي جعل من الاجتهادات التأريخية ضمنا داخل النص الديني اللاهوتي، وهناك الاتجاه الذي يرى الحاكمية للنص الثاني من حيث الواقع تخصيصا وتقييدا وتفسيرا، ويجعل التراتبية مجرد رقم تأريخي، وهناك اتجاهات إسلامية تعاملت مع الاجتهاد تعاملا تأريخيا ظرفيا تحت مظلة نقد التراث، وهناك الحركات القرآنية التي تحاول أن تجعل الهيمنة للنص الأول، وهناك اتجاهات عرفانية تركز على روح النص لا حرفيته.
وفي المقابل الإنساني هناك اتجاهات على خجل تجعل النص كليا في زاوية التأريخ والثقافة، وهناك من يمايز بين النص الأول والثاني، وهناك من يمايز بين المطلق والمتحرك، وهكذا على مستوى الآلة، لهذا الوعي الديني اليوم لم يعد مرهونا بسؤال ما بعد النص، بل أصبح مرهونا بسؤال النص ذاته!!!
كما أن العقل الجمعي في الجيل الحالي لم يعد مرتبطا بصورة كبيرة لما بعد الله، أي جدليات اللاهوت الكلامي الذي تشكل مبكرا في المدارس الإسلامية الكلامية، ورجع مؤخرا مع حركة الصحوة بسبب ظهور الجامعات والكليات والحوزات الدينية، وانكماشها المذهبي، والتي توافقت مع إحياء التراث ونشره، وظهور الكتاب و(الكاسيت) والمجلات ودور النشر الدينية، في أطر مذهبية أحيت هذه الخلافات الجدلية؛ فالعقل الجمعي في الجيل الحالي رجع إلى السؤال الأول أي الله من حيث الوجود، لهذا ظهرت لدينا اليوم الربوبية واللاأدرية، في تمظهرات متنوعة، يماثلها اتجاهات قراءة النص – كما أسلفنا – كالعقلانية والتجريبية والنسوية.كل هذا أحدث تشظيا في الخطاب الديني التقليدي، فمنه ما لازم الانغلاق، مكتفيا بصورة التحديث مع الواقع لا الحداث، ومنه من حاول أن يلبس لباس الحداثة في الوسائل والصورة لا الجوهر والمراجعة، ومنهم من حاول تجاوز ذلك على خجل، ولكن يجمعهم جميعا أنهم أمام مرحلة جديدة من التفكير تحتاج إلى مراجعات، لوجود اتجاهات أخرى مؤسسية أو فردية لها رؤيتها الناقدة والمؤثرة معا.
ونحن اليوم أمام اتجاهين: اتجاه التحديث المادي المرتبط بالحداثة، والذي أصبح يسايرها ظاهريا واستهلاكيا في الجملة، يماثله اتجاه فكري أفقي في الجيل الجديد، هذا الاتجاه برجوعه إلى الأسئلة الوجودية الأولى؛ خلق إشكالات جديدة، قد تكون قديمة سابقا كأسئلة فلسفية أو كلامية لا تتجاوز الدرس المدرسي أو التأليفي، لكنها أصبحت اليوم ظاهرة من الظواهر المجتمعية، وتتمدد كلما اتجه الخطاب المقابل إلى تكرار إجابات الماضي، أو صاحبه صور من الوعيد أو التهديد بالإقصاء والبراءة المجتمعية والمعيشية.
لا نستطيع أن ننكر أننا أمام جدلية ما بعد النص الأول الذي يعطي مساحات متدرجة في سعة التساؤل والبحث، والإجابة عن جدلية التراث والاجتهاد الديني، لكننا أيضا أمام جدليات الأنسنة والتأريخية، وجدليات النص وما قبل النص، كمصاديق الأحكام الإجرائية، وقضايا الحريات والجندرية والمواطنة والدولة والهوية والقيم الكبرى الجامعة، كل هذا أصبح مثارا بشكل كبير، على شكل أفقي جمعي كظاهرة، أو على شكل رأسي كبحث ودراسة.
لهذا في نظري، وقد فصلت الموضوع بشكل أكبر في كتابي: «لاهوت الرحمة في ضوء الفردانية: جدلية الهوية والأنسنة والتأريخية»، أن مآل الاتجاهات الدينية التقليدية إلى التهذيب، لوجود تيارات قوية متدافعة معها، ولأبوية وشمولية السلطة في الخليج، والتي تميل إلى الاتجاهات الدينية التقليدية، خصوصا الجامية المنفتحة منها، والتي لا تتعارض مع صور التحديث، ولا تعوق سياساتها الاستثمارية والتنموية، وفي الوقت نفسه لا تسبب لها مشاكل سياسية، أو معارضات حركية من الداخل، أو تطالب بتعاقدات دستورية بين السياسي والديني، وإنما لها بعض المساحة الهامشية كغيرها، مع العديد من الصلاحيات في حدود الواقع والمحافظ على السلطة ذاتها.
لكن لا يمكن أن نتجاهل اليوم بسبب الإعلام والفضاء المفتوح الاتجاهات الأخرى داخل اللاهوت الإسلامي نفسه، والتي تتدافع مع الحركات التقليدية، وفي مقدمتها القراءات القرآنية، بعيدا عن مدارسها وتدرجها في التعامل مع النص الثاني وما بعده؛ لكن لا يمكن نكران انتشارها اليوم في الخليج، وعودتها كبديل عن التراثية وتناقضات النص الثاني، وفشل المنهج الحديثي التقليدي في الخروج من جدليات النص الثاني، والعديد منه يتعارض من النص الأول، والتطور الحداثي وما بعد الحداثة في عالم اليوم.
كذلك لا يمكن تجاهل أيضا عودة الغنوصية والعرفان والتصوف كبديل عن حرفية الطقس التقليدي السلفي، ولها إحياء في الخليج عن طريق الطقوس والموالد أو الابتهالات الصوفية، أو عن طريق الطرق الصوفية ذاتها، ومنها طرق صوفية معاصرة كالكركرية، أو غنوصيات خارج الخط الإسلامي كالأوشية الهندوسية، أو اليوجا المتجاوزة للحد الرياضي، إلى الجانب العرفاني التأملي.
كما أن التغير الديموغرافي في الخليج أوجد بيئة من التعددية الدينية مع الأديان الإبراهيمية وغير الإبراهيمية، وهذه وإن كانت موجودة قديما؛ إلا أنها أصبحت جزءا من التكوين السكاني الخليجي، والتي قد ترتفع مستقبلا بسبب التجنيس، فهل نحن مستقبلا أمام رؤية دستورية توسع من حريات التعددية الدينية القديمة، والمتشكلة حاليا أيضا في ما بعد السيخية، كالأحمدية والبهائية وحركات التبليغ، كذلك الاتجاهات خارج الخط الديني، فهذه تشكل تحولات قد تكون اليوم بشكل تدافعي اجتماعي، إلا أنها قد تكون مستقبلا جزءا من الواقع الذي يحميه الدستور، ويتدافع معه المجتمع بشكل إيجابي.