الانتخابات الإلكترونية وحقوق الإنسان
على الرغم من أن الحركة النيابية في عُمان قد بدأت مبكرا في عام 1976 مع إنشاء المجالس التخصصية، إلاَّ أنها برزت للمجتمع عندما تم إنشاء المجلس الاستشاري للدولة عام 1980، والذي يبلغ عدد أعضائه آنذاك (43) عضواً؛ حيث كان له أثر بالغ الأهمية في تحريك مفاهيم التشارك بين المجتمع والحكومة من أجل تحقيق الأهداف الوطنية.
ولقد أسهم هذا المجلس في إيصال فكرة الشورى والتعاون المشترك بين أبناء المجتمع، كما سهَّل فكرة إنشاء مجلس الشورى عام 1990، ليمثِّل ذلك بداية متطوِّرة لمفهوم التشاركية من ناحية والانتخاب من ناحية أخرى، ليكون ظاهرة حديثة في الحياة النيابية على مستوى المنطقة؛ فهو مجلس مُنتخب من قِبل المجتمع، ولهذا دلالات على مستوى وعي المجتمع المبكِّر بمفاهيم الشورى والعمل النيابي، الأمر الذي بدأت بعده الحياة النيابية بالتوسُّع عندما أنشىء مجلس عمان عام 1996.
إن هذا التدرُّج في إدخال مفاهيم الحركة النيابية والانتخابية في عُمان، كان له الأثر الكبير في توعية المجتمع، وتهيئته ليكون قادرا على المشاركة الفاعلة بما يُعزِّز إمكاناته في فهم متطلبات كل مرحلة من مراحل تنمية المجتمع، لذا فإن لهذه الحركة انعكاسات وآثارا مباشرة على المستوى الاجتماعي والثقافي؛ فلقد أسَّست مفاهيم حقوق الإنسان، ورسَّخت قيم الديمقراطية، كما أسهمت في تطوير أنماط التواصل مع الآخر، خاصة على مستوى علاقة المرشح بالناخبين، إضافة إلى تنمية وعي المجتمع بأهمية دور المرأة سواء أكانت مرشحة أو ناخبة.
ولقد أسهم التطوُّر التشريعي والقانوني في عُمان، في تأصيل تلك الآثار الاجتماعية، وتنميتها بما يتوافق مع الحق الأصيل لأفراد المجتمع في الترشُّح والانتخاب، والحال فإن المتتبع لتطوُّر الفكر الانتخابي الآن بعد ما يقارب الخمسين عاما من تأسيس المجالس الانتخابية بأشكالها المتعددة، سيجد تطورا في فكر المجتمع نفسه، وقدرته على تغيير الصور النمطية للانتخاب، بما يُعزِّز مفاهيم الانتخاب، ويقدِّم أنماطا جديدة سواء من خلال الرؤى الانتخابية أو شخصيات المرشحين أنفسهم، الذين يكشفون عن الوعي الذي شكَّلته هذه التجربة لدى الشباب العماني المتعلم والمثقف، ليكون ضمن المشاركين الفاعلين في هذه المجالس.
إن تطوُّر التجربة البرلمانية والنيابية في عُمان، وتحديث أنماطها، وتيسير تحقيقها؛ من خلال تلك التقنيات الحديثة التي يسَّرت عملية التصويت وجعلتها أكثر سهولة، ينم عن حرص الدولة على مشاركة كافة أفراد المجتمع في العملية الانتخابية من ناحية، والاستفادة من التطوُّر التقني الذي تتميَّز به عُمان في تحريك فاعلية الانتخاب من ناحية أخرى، وإيجاد أنماط جديدة تتوافق مع تطلعات الدولة، وتقترب من المواطن وتقدِّم له الحلول البسيطة خاصة فيما يتعلَّق ببعد بعض مراكز الاقتراع، أو عدد الناخبين المتزايد في بعض الولايات وارتباط الكثير منهم بأعمال ووظائف خلال فترات الاقتراع وغير ذلك.
ولعل حرص الدولة على تطوير منظومة الانتخاب من ناحية، وتأكيد حق الانتخاب للمواطنين سواء أكانوا مقيمين داخل المحافظات العمانية أو خارجها، أدى إلى تطوير أنظمة الاقتراع الإلكتروني، الذي يتم تطويره كل عام بل مع كل تجربة انتخابية، الأمر الذي أدى إلى الإقبال على التسجيل في تلك الأنظمة؛ فقد أتاح نظام الانتخاب (انتخب) سهولة العملية الانتخابية، وقدرة الناخبين على الانتخاب الحر دون تأثير مباشر أثناء الاقتراع من قِبل المترشحين أو فريقهم، ولهذا فقد حرصت الدولة على تأكيد حق الانتخاب لأفراد المجتمع، إذ حرصت على مشاركة المواطنين المقيمين خارج عُمان لأسباب متعددة، من خلال إتاحة الفرصة لهم للاقتراع الإلكتروني السهل، الذي يمكنهم من المشاركة الفاعلة بالكفاءة والنزاهة نفسها، بما يؤصِّل مفاهيم المشاركة والديمقراطية، ويطوِّر مفاهيم الانتخاب وقيمه المجتمعية.
ولذلك فإن عُمان تُعد من بين أوائل الدول العربية التي تقدِّم نموذجا أكثر تطوُّرا وتقدما على مستوى التصويت الشخصي الإلكتروني، الذي يعزِّز مفاهيم الديموقراطية والموضوعية، وشمولية التمثيل المجتمعي، وبما يضمن حماية حقوق أفراد المجتمع من ناحية، والتنمية المجتمعية الفاعلة من ناحية أخرى، ولهذا فإن تخصيص يوم لانتخاب المواطنين من خارج عُمان، يكشف عن هذا التعزيز وتلك الحماية، بما يمثِّله من قدرة على صون الأمن المجتمعي، وما يعكسه من آثار اجتماعية ترتقي بمفاهيم المواطنة نفسها.
لقد أصبح إدخال التقنيات الحديثة في الانتخابات ـ بحسب القاموس العربي للانتخابات، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي-ـ (عنصرا أساسيا وجوهريا) في لوجستيات الانتخابات، لما تمثِّله من أهمية في زيادة الفاعلية الإدارية وتقليل تكاليف العملية الانتخابية، وتسريع المسارات الانتخابية وتحديثها، ولهذا فإن استخدام التقنيات الحديثة في الانتخابات سيُسهم في تطوير المفاهيم النيابية، وفتح آفاق جديدة لإسهام المجتمع في تطوير هذه العملية، من خلال ما تتيحه تلك التقنيات من تفاعل ومعلومات، وما تقدمه من إمكانات تشاركية بين المترشحين والناخبين، إضافة إلى أهميتها في تقديم قواعد بيانات أساسية، تفيد في اتخاذ القرارات والمراجعة المستمرة لأنظمة الانتخاب وأنماطها.
إن استخدام التقنيات الحديثة في الانتخابات النيابية من أهم الوسائل التي ساعدت على ترسيخ المفاهيم النيابية والشوروية، وتأصيل حق أفراد المجتمع في تلك الانتخابات سواء أكانوا داخل البلد أم خارجه؛ فما تتيحه من خصوصية وموثوقية وأمان، كان له الأثر الكبير في تحقيق أهداف العملية الانتخابية وتيسيرها، ولهذا فإن نموذج تطبيق (انتخب) بما يتميَّز به إمكانات ليس على مستوى التصويت نفسه وحسب، بل أيضا على مستوى التعريف بالمترشحين ورؤاهم الانتخابية، بما يمكِّن الناخبين من التعرُّف إليهم بمصداقية وموضوعية، وبما ينعكس على عملية التصويت نفسها.
ولقد أدى شيوع وسائل التواصل الاجتماعي في إضافة ميزة مهمة على عمليات الترويج الانتخابي من خلال ما نشهده من نشر المرشحين عبر صفحاتهم الشخصية أو صفحات من يؤيدهم من أفراد مجتمعهم، لمبادئ حملاتهم الانتخابية ورُؤاهم، الأمر الذي يفتح أمامهم آفاق التواصل المباشر مع ناخبيهم، ويجعلهم أكثر قربا منهم، ومن متطلباتهم وما يأملونه منهم، وعلى الرغم من فائدة هذه المواقع وقدرتها على فتح قنوات التواصل المباشر بين المرشحين والناخبين، إلاّ أنها من جهة أخرى قد أسهمت في زيادة ما يُسمى بالعنف السياسي، بما تثيره من إشكالات على مستوى تصعيد النقاش وحدته، وتدخلات الكثير من المشاركين السلبيين، الأمر الذي شكَّل مجموعة من التحديات أمام بعض الحملات الانتخابية.
ولأن ذلك كله يندرج ضمن التفاعل الديمقراطي الحر، وحرية التعبير عن الرأي، فإن علينا أن لا ننسى أن ذلك كله له قواعد وأصول علينا جميعا أن لا نحيد عنها؛ فالتفاعل الديمقراطي وحرية الرأي يندرجان ضمن منظومة أخلاق المجتمع، والدفاع المبرَّر عن الرأي، الذي يتأسس على القيم المجتمعية الأصيلة، والتفاعل الإيجابي بما يُحقق الأهداف الوطنية العليا، فغايتنا من الوقوف مع هذا المترشِّح أو ذاك هي غاية وطنية وليست شخصية؛ ولهذا فإن تغليب النقاش الموضوعي العقلاني الذي يبتعد عن الشخصنة والقبلية والتوجهات الذاتية، هو تغليب لمصلحة الوطن وتحقيق أهدافه المستقبلية، فكل ما يدور ضمن النقاشات العامة في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص تؤثر مباشرة على توجهات الناخبين وإقبالهم على المشاركة في الفعل الانتخابي، ولعل المواطنين المقيمين في الخارج أكثر عرضة لمثل هذا التأثير.
إن القيمة الانتخابية التي ترسَّخت في وعينا المجتمعي خلال مراحل تأسيس العملية الانتخابية في عمان، تظهر جلية خلال تفاعلنا الإيجابي مع المرشحين ونقاشنا الفاعل مع المجتمع، ومشاركتنا في العملية الانتخابية نفسها، فكل ما نقدمه وما نقوله وما نكتبه يمثِّل مسؤولية وطنية علينا جميعا المساهمة فيها بإيجابية وتشاركية تنم عن انفتاح مجتمعنا وقدرته على اختيار مرشحيه بموضوعية وحيادية.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة