الاكتئاب باعتباره أكثر من مجرد خلل في كيمياء الدماغ
السردية الشائعة عن الاكتئاب هو النظر إليه باعتباره نوع من عدم توازن في كيمياء الدماغ «chemical imbalance». أحد الأسباب التي تدفع الناس لتبني مثل هذه المُقاربة هو: أولا، رفض التشكيك في الاكتئاب باعتبارها مرضا سريريا، خصوصا في الأوساط التي لا تأخذ الأمراض النفسية على محمل الجد، وتميل لاعتبارها «كسلا» أو «ضعفا». لم يعطِ هذا مشروعية للمرضى فحسب، بل وللأطباء أيضا، فهم الآن وقد ربطوه بالبيولوجيا صار بإمكانهم أن يتحدثوا عنه، وأن يُساعدوا مرضاهم. ثانيا، افتراض أن أي مرض نفسي يرتبط عضويا بالدماغ. يُهمل هذا المنظور العلاقة المعقدة بين الجسد والدماغ، ويبدو أنه يُكرس للأفكار الكلاسيكية عن ثنائية الروح والجسد، أو العقل والجسد.
إذا كان الإنسان حيوانا مُفكّرا، فهذا لا يعني أن رأسه (الدماغ) هو ما يجعله إنسانا، فالبشر يُفكرون ويشعرون بكامل أجسادهم، ولا يُفترض بنا أن نبحث عن عِللنا النفسية فيه حصرًا. يُشجعنا علماء النفس اليوم على التفكير -عوضا عن ذلك- بالدماغ، والجسد، والمحيط / البيئة أيضا.
لا نُلام على التفكير بهذه الطريقة. فهذا ما كنا نسمعه من المعالجين والأطباء النفسيين، ما تقوله الكتب التعليمية، وتشرحه الصيدليات. ويبدو أن الفكرة جاءت مع تطوير أول دواء يُساعد المكتئبين (مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية SSRIs)، ما جعل المختصين يقفزون إلى الاستنتاج أن ما يُسبب الاكتئاب هو خلل في السيروتونين.
صار علماء النفس في الآونة الأخيرة يُراجعون هذه الفكرة، إذ يبدو أن أسباب وطبيعة الاكتئاب أعقد مما تقترحه فرضية السيروتونين. هُجرت النظريات التي تُبنى على تقسيم الدماغ إلى مناطق وظيفية (منطقة مسؤولة عن اللغة، وأخرى عن المنطق، أو الرؤية، وهكذا)، وزاد القبول بأن وظائف الدماغ موزعة عبر شبكته العصبية المعقدة. رغم الدراسات الكثيرة والمعقدة لا يبدو أننا نقترب من فهم الاكتئاب (والأمراض النفسية عموما)، خصوصا أنه لا يوجد ما يدل عليه لا فحوصات الدم ولا المسوحات التصويرية للدماغ. يُمكن لعوامل لا حصر لها التسبب بالمرض. بداية بالجينات، مرورا بالسمات الشخصية، التاريخ المَرضي، وإلى ظروف الحياة. تُستخدم قائمة من الأعراض لتشخيص الاكتئاب، مثل اضطرابات النوم (سواء كثرته أو قلته)، والأكل، وتقلب المزاج. فيما يجري التأكيد على أخذ وصف المرضى لمعاناتهم الخاصة في الحسبان؛ لأجل تطوير قائمة الأعراض التي لم تُحدّث -بشكل جوهري- منذ الستينات. فوق هذا، تنتصر طريقة التشخيص المعتمدة للبيض بشكل خاص، أي أنها أدق في رصده عند هذه الفئة (هذا أو أن المُلونين لديهم أسباب أقل للاكتئاب!)، ما يجعل الأطباء النفسيين يُعيدون التفكير في الكيفية التي يتجلى المرض فيها عبر الأعراق والثقافات المختلفة. الانتباه لهذه الظاهرة، لفت الأنظار إلى أن معظم ما نعرفه عن المرض النفسي يُنتَج في بلدان «غربية، متعلمة، صناعية، غنية، وديمقراطية». يصعب أن تُطبق نتائج الأبحاث الأمريكية على مجتمع أوروبي، فما بالك بإسقاطها على بلدان الشرق والشرق الأوسط، بمجتمعاتها التي يُحتمل أنها تتبنى قيمًا ليست مختلفة فحسب، بل ونقيضة.
إعادة التفكير في الاكتئاب يعني أيضا دراسته كحالة جماعية؛ لأن التركيز على الفردانية في هذا السياق، يُدين الفرد، ويبرئ النظام. ويجعل الفرد مسؤولا مسؤولية كاملة عن التعامل معه وعلاجه.
لا تستدعي كل أشكال الاكتئاب التدخل. فلا يُمكن أن نتوقع ونحن نُشاهد المجازر، والموت، والحروب أقل من المشاعر العاصفة، وانفعالات كهذه مفهومة بل ومرغوب بها؛ لأنها تدفع إلى تغيير الواقع (أو يُفترض بها ذلك).
عليّ التنويه في الخاتمة أن هذا المقال يأتي باعتباري مُهتمة بعلوم وفلسفة الوعي والدماغ، وأنني وإن كنتُ -بدرجة لا بأس بها- مؤهلة للتعامل مع المواد العلمية، إلا أنني لست مختصة بعلم النفس، ويجوز أن أكون قد أغفلت عن جوانب مهمة للقضية.
نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم