الاستعداد الوقائي لمواجهة الاختراقات الصهيونية
كيف ينبغي أن ننظر لمبادرة مجلس الشورى في سلطنة عمان تغليظ وتشديد قانون مقاطعة الكيان الصهيوني؟ ولماذا الآن؟ سنضع هذه المبادرة في سياقاتها الزمنية والسياسية من جهة، ومن ثم طبيعة الصيرورات التي يخشى منها إذا لم يكن هناك تشريع يدير إكراهاتها الآن في ظل ما يحدث داخل هذا الكيان من تولي حكومة مكونة من عتاة الصهاينة والتطرف مثل: غفير وزير الأمن، وسوميتريش وزير الاقتصاد، ويشبه الأول ببن جوريون مؤسس الكيان الصهيوني من حيث عنصريته وتطرفه، والزلزال السياسي هنا، تبني حكومة نتانياهو أجندات هذا اليمين المتطرف التي تلغي حق فلسطين والفلسطينيين كدولة وشعب، أي ليس لهم الحق في الوجود، وكلنا نعلم مركزية فلسطين/القدس عند العمانيين، والكل يعلم نصرة العمانيين لإخوانهم الفلسطينيين في مختلف محنهم التاريخية، لذلك ليس مستغربا أن تتزامن مبادرة ممثلي الشعب مع مثل هذا المفصل التاريخي للقضية الفلسطينية، إلا أن هناك مسوغات أخرى مقلقة تدفع بهم إلى اتخاذ هذه المبادرة وفي هذا الوقت بالذات، وقد كنت أتابعها بدقة حتى اتضحت ماهيتها من خلال القصة التالية:
جاءني مستثمر عماني -مسقط رأسه محافظة ظفار- للمقهى المعتاد الذي أكتب فيه مقالاتي، والمستثمر عادة ما يكون جوازه في جيبه من كثرة سفرياته لدولة خليجية ومصر وتركيا، ونادرا ما يكون في ظفار، وأفادني بان صهيونيا رفيعا اتصل به عندما كان في الدول الخليجية بهاتف محلي يطلب منه المشاركة في ملتقى مصغر لمجموعة مستثمرين لتأسيس تعاون صهيوني خليجي عابر حدود الدول الخليجية الست، وما كان منه –أي المستثمر العماني– ألا أن رفض المشاركة فيه دون تردد، وقد اختاروا الشخصية الخطأ، لكن هل سيعجزون عن العثور على غيره في الدول الست؟ سيجدون دون الكثير؛ لأن طبيعة المرحلة الخليجية مواتية لذلك، إذ أنها منتجة لمجموعة صيرورات راديكالية على واقعها الخليجي المحافظ، والمستقبل أخطر.
استعدت قصة المستثمر بعد سماعي عن مبادرة مجلس الشورى توسيع تجريم التعامل مع الصهاينة، وكذلك توسيع مقاطعة كيانه المغتصب، ورأيت فيها خطوة استباقية في توقيتها المناسب لقطع الطريق عن طريق التشريع أمام ضعفاء النفوس، وهي تعكس لنا مدى المتابعة لما يحدث داخل منطقتنا الخليجية من استهدافات تقلب الموازين المتعارف عليها، وتؤثر على أسس الاستقرار الداخلية لكل دولة، مما يحسب لصالحهم هذه الخطوة" السياسية، وهي في الأساس وطنية بامتياز للاعتبارات التي سنذكرها لاحقا، وتنحصر مبادرتهم بصورة أدق على تطوير المادة الأولى من قانون المقاطعة الذي صدر في بداية السبعينيات لتواكب تلكم المستجدات المقلقة، وفي حالات تصل إلى مستوى الرعب من نتائجها المرتقبة إذا لم تدار هذه التحديات من الآن عن طريق التشريع ومواده القانونية الرادعة، وتطبيقاتها الحاسمة. من هنا ارتكزت التعديلات لهذا المادة على قطع الطريق لإقامة أية علاقات اقتصادية أو رياضية أو ثقافية أو تقنية، وحظر التعامل بأي طريقة أو وسيلة كانت سواء كان واقعيا أو إلكترونيا أو غيره.
وهذا ذكاء من شركاء التشريع لطبيعية دورهم الوطني / القومي في هذه المرحلة، وهم بذلك يساعدون الحكومة في إدارة الإكراهات الدولية التي قد يستصعب إدارتها لو لم يمارسوا مثل هذه الأدوار؛ لأنهم يعبرون عن إرادة المجتمع، وهذا الأخير ركن من أركان الدولة الأساسية، لذلك فهم هنا بالصفة التمثيلية الأصيلة التي يعرف الغرب مركزيتها في التشريع، وفي القرارات الداخلية لكل دولة في العالم، لذلك يكون الاعتداد والتقدير والنفاذ لإرادات ممثلي الشعوب في البرلمانات، ولا تسأل الحكومات عن إرادات شعوبها إذا ما عبرت عنها بالتشريعات التي تحمي مصالحها، وتضمن ديمومة حصانة مجتمعاتها.
ولنا في تجربة اختراقات الديموقراطيين في المنطقة نموذج نبني عليه القلق من الاختراقات الصهيونية والغربية المماثلة لها، فمن الفراغ التشريعي المطلق في التسعينيات، ظهرت نخب فوق السطح، واستقوت بعلاقاتها بالأمريكان، واخترقت مؤسسات المجتمع المدني في الخليج في ظل غياب القوانين المحلية، من أهمها، قانون حظر تلقي الدعم المالي من الخارج سواء كان فردا أم كيانا عاما، وأشرنا في مقال سابق، إلى أن الاختراق وصل حتى إلى إحدى جمعيات المرأة في دولة خليجية، وأصبحت النساء لها علاقة مباشرة بسفارات غربية وأمريكية داخل بلدانهم، توجه لهن دعوات لزيارات أوروبا وواشنطن، وظهر في المنطقة الآن ما يسمى بأصدقاء أمريكا في الخليج، وقد تم إحياء هذه الصداقة بعد مجيء الرئيس بايدن الديموقراطي للحكم في البيت الأبيض بعد أن اختفوا عن المشهد في عهد ترامب الجمهوري، وهنا الفرق بين الحزبين، إذ يعتبرون من المنظور الديموقراطي من القوة الناعمة التي تستخدمهم ضد حكوماتهم، على عكس الجمهوريين الذين يلجؤون إلى القوة الخشنة لتحقيق مصالحهم وديمومتها، وهناك أصدقاء لأمريكا في كل دولة خليجية، وبهذا المسمى فعلا.
ومن الناحية الاستشرافية لمبادرة مجلس الشورى، نقول إنه إذا لم يتدخل ممثل الشعب العماني الآن، فإننا سنشهد موجة ارتماء ضعفاء النفوس في مستنقع الصهاينة المتطرفين في مختلف تلكم المجالات التي يقترح مجلس الشورى حظرها بقوة التشريع، خاصة وأن قانون المقاطعة يرجع إلى مرحلة بداية السبعينيات أي أنه لا يواكب المستجدات، وسنشهد نخبا مختلفة – اقتصادية وثقافية / فنية وفكرية واجتماعية تستقوي بالصهاينة، وستصنع مركزا استعلائيا فوق السلط والمجتمع؛ لأنه كلما يكون ارتباطها بهم عميقا وقويا، تشعر بالقوة، وستتحول إلى عناصر مزعجة داخليا، لكنها ستكشف لاحقا، أن قوتها مجرد وهم؛ لأنه عندما ينتهي الغرض من استهدافها، سيرمى بها دون حماية، والتاريخ الحديث فيه الكثير من العبر والدروس والشواهد، وهذا تحذيرنا لكل من يلهث وراء المال على حساب المبادئ والقيم، ونذكرهم بأنهم سيتعاملون مع عتاة الصهاينة المتطرفين الذين سيتخذونهم وسيلة لتحقيق مآربهم في المنطقة، حيث لهم أطماع في كل دولة خليجية تقريبا، يزعمون بأنها تاريخية لكيانهم المغتصب.
لكن، هل تلكم التعديلات لوحدها ستمنع الاختراقات الصهيونية ؟ علينا القول صراحة أن الاختراقات ستكون قوية، وتستهدف البنى الأساسية لكل دولة خليجية في ظل انشغال الحكومات بتحولاتها المالية والاقتصادية، لذلك فالتشريع الذي يجرم التعامل والتواصل مع الكيان ينبغي أن يكون مغلظا، وهو ما أستشفه البرلمان العراقي عندما اعتمد عقوبة الإعدام لكل من يتواصل أو يقيم علاقات معه – وقد تناولناه في حينه – إذ أنه لو لم يكن هناك أسباب موضوعية لهذه العقوبة ما نص عليها في التشريع، ومطالبتنا بعقوبات مشددة رادعة لها أسبابها الموضوعية كذلك؛ لأن الصهاينة قد أسسوا لهم بنيات دائمة في عواصم خليجية، وتمكنوا من تغيير قوانين خليجية، وسمح لهم بحقوق فكرية / أيديولوجية واقتصادية وثقافية، ولن نستبعد السياسية قريبا، فعن طريق القوانين الخليجية المشتركة يمكن عبورهم المادي والمعنوي بسهولة بين الجغرافيات الخليجية حتى لو لم يكن هناك علاقات تطبيعية مع دولهم، لذلك، ينبغي أن تكون مواد التشريع العماني مغلظة لدواعي الردع، ومن ثم يحتاج لرفع الوعي العام بها، وتطبيقه يكون رادعا وشفافا.
وقد نحتاج إلى إقامة لجنة شعبية للمقاطعة لضمانة الغايات الوطنية والقومية لمبادرة مجلس الشورى، وفي ضوء ما ذكرته سابقا بأن الاختراقات ستكون قوية، وأن الحدود السياسية للدول الست ستكون مفتوحة بحكم قوانين الإقامة الخليجية المشتركة، لذلك تحتاج الحقبة الزمنية لمبادرات شعبية وليست حكومية حتى لا يحسب عليها، ومبادرة اللجنة الشعبية يمكن أن يقترحها مجلس الشورى، وتكون تحت إشرافه ضمن سياق استنهاض دوره الوطني والقومي، ويمكن الرهان كثيرا على التشريع ولجنة المقاطعة لإدارة الإكراهات التي وراءها الصهاينة المباشرة التي تكون مستترة كذلك.
وهذه الأدوار ليست مصطنعة، وإنما تدخل في صلب تقسيم الدولة المعاصر من الناحية الوظيفية إلى ثلاثة قطاعات أساسية، كما أوضحت ذلك في مقالي الأخير، وهي القطاع الحكومي والعمومي والقطاع الخاص والقطاع المدني، ولكل واحد منها له أدواره ووظائفه داخل الدولة المتجددة، وقضية المقاطعة بشقيها التشريعي والشعبي من صلاحية القطاع المدني، وهكذا توزع الأدوار بين الفاعلين داخل الدولة، وهي أدوار أصيلة بعيدا عن المسرحيات، وتفرضها التحولات الاستراتيجية التي طرأت على الدول من دور الرفاه إلى دور فرض الضرائب والرسوم، مما نجد ذلك التقسيم الثلاثي الوظيفي للدولة له ما يبرر التسليم به الآن.
وهكذا يكون الشعب العماني قد قال كلمته لنصرة أشقائه في فلسطين المحتلة الذين يواجهون الآن عتاة الصهاينة في التاريخ الحديث، وقال كلمته لتحصين مجتمعه من اختراقاتهم، لذلك فمبادرتهم تضامنية مع قضيتهم الإسلامية الأولى، ووقائية في الوقت المناسب لقطع الطريق تشريعا وشعبيا في وجه من يفكر في التعامل ثقافيا وفنيا ورياضيا واقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا.. فردا أو كيانا، طبيعيا أو معنويا، والشعب بما فيهم نخبه المختلفة يدعم هذه المبادرة، ويتطلع إلى استكمال إجراءاتها التشريعية والسياسية سريعا، ومن ثم تطبيقها لعامل الوقت المقلق.