الاستثمار في المكتبات العامة
أطلقت جمعية خدمات مكتبات الشباب والمراهقين (YALSA)، (المنتدى الوطني لمستقبل خدمات المكتبات للشباب)، بهدف (إجراء مناقشة وطنية حول مستقبل خدمات المكتبات للشباب والمراهقين)؛ وجاء في مقدمة الإصدار الخاص بالمنتدى أن المراهقين ينجذبون إلى المكتبات "للوصول إلى الإنترنت أو أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالمكتبة واستخدام الموارد البحثية، والقراءة والكتابة، ومناقشة الكتب، والاختلاط الاجتماعي، والمشاركة في البرمجة، و(التسكع)"؛ وذلك لأن المكتبات أماكن (محايدة) و(آمنة) من الناحية التقنية والمعرفية، توفر للشباب والمراهقين فرصا للنمو (فكريا وعاطفيا واجتماعيا)، وفي اجتماع جمعية المكتبات الأمريكية (ALA) في يونيو 2022 في واشنطن، تم مناقشة مناطق الجذب التي تُشكِّل مستقبل المكتبات ومدى قدرتها على المشاركة المجتمعية وبناء القدرات خلال المرحلة المقبلة.
فما حدث من انكماش اقتصادي وتفشٍ لجائحة كورونا (كوفيد19) شكَّل تحديا كبيرا للمكتبات ومرتاديها على المستوى العالمي، سواء أكانت مكتبات شرائية أو عامة أو حتى أكاديمية وتعليمية، وهذه التحديات لا تكمن في القدرة الشرائية أو الصحية وحسب، بل على المستوى الاجتماعي والتقني أيضا؛ حيث كانت أنماط الحياة الاجتماعية عائقا أمام القدرة على الوصول إلى تلك المكتبات، ولهذا فإن المجتمعات على مستوى المؤسسات والأفراد لجأت إلى التقنية لحل تلك التحديات، حتى أصبح ولوج المكتبات إلكترونيا (عن بُعد) أكثر منه حضوريا، الأمر الذي جعل العديد من تلك المكتبات تواجه تحديات عدة على المستوى التقني، فلم تكن جميعها مستعدة أو قادرة على البدء في التحوُّل إلى الأنظمة الإلكترونية بالسرعة المطلوبة.
أما اليوم وقد عادت الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى النهوض والتعافي تدريجيا، فإن حياة الحضور المكتبي أيضا تعافت، وهنا يحضُر التساؤل الذي يُطرح منذ بدء هذه المرحلة الذي يكمن في رؤية هذه المكتبات؛ فإما أن تعود كما كانت بنظامها الحضوري وخدماتها الاعتيادية، وإما أن تكون هذه المرحلة فرصة للتحوُّل الرقمي وأنماط الخدمات الإلكترونية الأخرى. لكن هل المكتبات بأنواعها مستعدة للمرحلة المقبلة من عُمر المجتمعات؟ هل ستكون قادرة على تأسيس الفكر التقني بالمستوى الذي يتطلَّع إليه المستفيدون؟
إن الحديث عن علاقة المكتبات بالشباب والمراهقين على وجه الخصوص يعتمد على قدرة تلك المكتبات على فَهم متطلبات هذه المراحل العُمرية التي تعيش طفرات حضارية غير مسبوقة من ناحية، وتتميّز بمهارات تقنية خاصة من ناحية أخرى، فالأجيال اليوم خاصة أجيال (الألفية)، و(Z)، يتطلعون إلى خدمات مكتبية مختلفة، تمكِّنهم من تحقيق ما يريدونه من معارف ومهارات، تُسهم في تنميتهم أكاديميا وعاطفيا واجتماعيا، ولهذا فإن (YALSA) تُطلِق ضمن منتداها دعوة (لاستكشاف) "مستقبل خدمات المكتبات للمراهقين،وإعادة التأكيد على حق جميع الشباب في الوصول إلى الخبرات والخدمات الفريدة التي يمكن أن توفرها المدارس والجامعات والمكتبات العامة للشباب" – بحسب تقريرها -.
أعدَّت إدارة المناطق الريفية وتنمية المجتمعات ووكالة إدارة الحكومة المحلية في أيرلندا الشمالية تقريرا مهما بعنوان (مكتباتنا العامة 2022. إلهام المجتمعات وربطها وتمكينها)، يهدف إلى إبراز تلك الإمكانات التي توفرها المكتبات العامة في دعم (الرفاه الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي للمجتمعات)، باعتبارها ساحات محلية (موثوقة)، و(داعمة)، و(مُيسِرة) للتعليم، و(مساهمة) في التنمية الوطنية في الدول. إلاَّ أن التقرير يُقدم هذه المكتبات باعتبارها (مكتبات القرن الحادي والعشرين)، بما يعنيه ذلك من خدمات وإمكانات تُسهم في دمج المجتمع على المستوى الاجتماعي، وجذب أجيال الألفية، من خلال مجموعة من الشراكات المحلية والمشروعات والمبادرات وفرص العمل المشترك، الذي يربط بين القدرة على تنمية المهارات وتقديم فرص الابتكار المعرفي.
لقد وفَّرت أيرلندا مجموعة من البرامج الاستثمارية في مجال المكتبات العامة التي ترتبط بـ (استراتيجية تحديث خدمة المكتبات العامة)؛ فما بين 1998- 2012 "استثمرت خزينة الدولة حوالي 131 مليون يورو في مباني المكتبات، شاركت فيها المؤسسات العامة والخاصة، وتم تسليم 95 مكتبة على الصعيد الوطني" – حسب التقرير -، وهذا الاستثمار شمل أيضا (الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وزيادة الإنفاق على المخزون المعلوماتي)، الأمر الذي حقَّق توفير وصول الجمهور عبر الإنترنت إلى الموارد والمعلومات الموثوقة، ومحتوى الدراسات المحلية والعالمية الرقمية، مما أدى إلى نمو في استخدام الخدمات المكتبية، و"زيادة أعداد الأسهم بنسبة 55%، وبين عامي 2008-2012 نمت الزيارات إلى المكتبات بنسبة 15%" – كما ورد في التقرير -.
إن الاستثمار في المكتبات العامة لا يخدم المستوى المعرفي الأكاديمي والتعليمي والثقافي وحسب، بل يخدم مباشرة المستويات الاجتماعية والاقتصادية؛ ذلك لأن المكتبات العامة تُقدم خدماتها ومعارفها تلبيةً للاحتياجات المجتمعية، ورغبةً في تحقيق التنمية الاجتماعية في قطاعها الجغرافي، لتُشكِّل بذلك أساسا داعما للأهداف التنموية التي ينشدها الأفراد، وبالتالي تقدِّم لهم فرصا هائلة للتطوير المهاري الإبداعي والمعرفي عالي الجودة، الأمر الذي سيكون له الأثر البالغ في بناء القيمة الذاتية الفردية، ورفاهية المجتمع وتماسكه من خلال الخبرات الثقافية الجماعية التي تُشكِّل (هُوية المجتمع).
ولأن المكتبات تُشِّكل أحد الأنماط الثقافية التي ترتكز على مجموعة من الأسس المعرفية التي يجب تطويرها وتنميتها بما يتوافق مع متطلبات الأهداف الوطنية للمجتمع، فإن توفيرها على مستوى المناطق الجغرافية سيدعم التنمية الاقتصادية بشكل خاص؛ فتوفُّر المعلومات الوطينة الموثوقة، وإيجاد خدمات وموارد مبتكرة، إضافة إلى توفير فُرص لوسائل الابتكار خاصة على المستوى المحلي، سيُسهم مباشرة في التنمية الاقتصادية المحلية في كافة المجالات؛ ذلك لأن الكتبات العامة ذات القدرة التكنولوجية متمكنة من تقديم الخدمات والموارد التي يطلبها (المجتمع الحديث) المُتطلِّع إلى تحقيق أهداف وطنه، والقادر على الوصول إلى غاياته التنموية وفق رؤية تتأسس على المعارف والمعلومات الموثوقة.
ينظر العالم اليوم إلى المكتبات العامة باعتبارها (خدمة مجتمعية أساسية)، تدعم النمو المعرفي للمجتمعات، وتطوِّر قدرته على النقد البَنَّاء، وتمكين ذاته من مواجهة التحديات المتزايدة، إضافة إلى أنها فرصة للشباب والمراهقين بشكل خاص لتطوير مهاراتهم وفق متطلبات عصرية حديثة، قادرة على فهم احتياجات المجتمع المحلي. والحق أن الحكومة الرشيدة في سلطنة عُمان اعتنت عناية كبيرة بالمكتبات العامة حيث أسسَّت العديد من المكتبات العامة التي تُشرِف عليها الدولة سواء أكانت ضمن المؤسسات الحكومية أو الجوامع والمساجد، أو أن تكون مستقلة بإشراف حكومي، وكل تلك المكتبات تُقدِم خدماتها المختلفة لجمهورها وفق الرؤية التي تأسست عليها، إلاَّ أن الكثير من المحافظات والولايات لا تحتوي على مثل تلك المكتبات، ولهذا فقد بدأت أعداد متفرقة من المكتبات تتأسس على مستوى الأفراد، ممن أسهموا مساهمة إيجابية في بناء منظومة معرفية، استطاعت أن تُقدم لأفراد المجتمع بيئة ثقافية آمنة.
والحال أنه على الرغم من تلك الجهود التي بذلتها الدولة والأفراد إلاَّ أن منظومة المكتبات العامة في ظل أهدافنا التنموية الطموحة تحتاج إلى رؤية واضحة، من حيث قدرتها على مواكبة المتغيرات العصرية، ومتطلبات أجيال الألفية، فما كان قبل 2022 لا يمكن أن يستمر كما هو الآن بعد تلك الطفرات التقنية والمعرفية، التي تُشكِّل اليوم قوة دفع هائلة للمجتمعات نحو الإبداع والابتكار في شتى المجالات، ولهذا فإن علينا مراجعة تلك المنظومة وإيجاد وسائل لتمكين المكتبات العامة خاصة في المحافظات، حتى تكون حاضنة معرفية لبناء القدرات الوطنية.
قدَّمت جامعة (ARUP) البريطانية تقريرا يتضمن تصورا لمستقبل المكتبات العامة من حيث (البنية التحتية الاجتماعية) والخدمات والخبرات، والمساحات المادية التي يوفرها التصميم لمراكز التعليم والصحة والابتكار والترفيه، إضافة إلى المقاهي وخدمات الإنترنت التي تشمل التوسعة خارج (جدران المكتبات)؛ بحيث تتوسَّع في نطاقها الإلكتروني بوسائل التقنية المختلفة لتصل إلى أفراد المجتمع أينما كانوا، عبر مجموعة من البرامج التشاركية، ويقدم هذا التصوُّر نموذجا لذلك بمكتبة (أوبنبار أمستردام)، (المصممة لربط التعلم بالمشاركة والخبرة. إنه يجذب مليوني زائر كل عام)، إضافة إلى تصميم مكتبة (سان فرانسسكو) ومستويات تشغيلها الحديثة، التي تُقدِم برامج معرفية عدة.
إن المكتبات العامة أساس مجتمعي يقود التنمية، ويدفع أفراد المجتمع إلى النقد البنَّاء الهادف، ويمكِّن الرفاه الاجتماعي والتقدم التقني في الدولة، ولعل مُضي الحكومة الرشيدة في تشييد مبنى المجمَّع الثقافي والمكتبة الوطنية سيُشجِّع المستثمرين للمساهمة في تأسيس المكتبات الوطنية الحديثة بمستويات تتناسب مع طموحات المجتمع، وتدفعهم إلى المساهمة التنموية الفاعلة الإيجابية.