الاستثمار في الانتعاش الثقافي

30 أكتوبر 2021
30 أكتوبر 2021

لقد أدت جائحة كورونا (كوفيد19) إلى التراجع في الاستثمار على المستوى العالمي، فقد أكَّد تقرير الاستثمار العالمي 2021 (الاستثمار في انتعاش مستدام) الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونتكاد) أن الأزمة قد أثَّرت تأثيرا سلبيا (هائلا) على "أكثر أنواع الاستثمار إنتاجية؛ أي الاستثمارات التأسيسية في المشاريع الصناعية ومشاريع البنى التحتية"، مما يعني أن (الإنتاج الدولي) الذي يُعد محركا للاقتصاد والتنمية عالميا، قد (تضرر بشدة).

ولهذا فإن الأمم المتحدة خصصت هذا التقرير للاستثمار في (الانتعاش المستدام)؛ حيث تحوَّل اهتمام واضعي السياسات خلال هذا العام نحو الانتعاش وإعادة البناء بعد التأثيرات الهائلة التي لحقت بالعالم خلال العامين المنصرمين بسبب الجائحة. ولكي تستطيع الدول ذلك فإن أولويات الحكومات والشركات في هذه المدة هي إمكانات (القدرة على الصمود)، و(الاستدامة)، وذلك لن يتأتى – بحسب التقرير – سوى من خلال توجيه استثمارات جديدة واعدة؛ سواء تلك المرتبطة بالقدرة الإنتاجية مثل (رأس المال البشري والطبيعي، والبنية التحتية، وتنمية القطاع الخاص، والتغيير الهيكلي)، أو الاستثمار في الصناعات خاصة تلك المرتبطة بالصناعات الإبداعية، والرقمية، والطاقة.

ولعل التحديات التي تواجه الاستثمار في الانتعاش دفعت الأمم المتحدة إلى اقتراح (إطار لسياسات الاستثمار في الانتعاش المستدام)؛ يعتمد على معادلة (الحوافز بين البنية التحتية والصناعة)، أي التوازن بين الخطط التنموية المعنية بالإنتاج وقدرة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية على الصمود، والذي لا يمكن أن يتحقق سوى عن طريق (تشجيع الاستثمار في الصناعة وتيسيره) – بحسب التقرير -. الأمر الذي يعني أن استراتيجيات التنمية عليها أن تقوم على سياسات استثمارية قادرة على تحقيق أهداف التنمية الشاملة في الدولة، بما يتأسس على تعظيم الأنشطة الاقتصادية الاجتماعية وتمكين قدرتها على الصمود والاستدامة.

ولأن الأنشطة الاقتصادية الاجتماعية ترتبط بالإنسان الفرد في غالبيتها، فإن قدرتها على الصمود والاستدامة ضعيفة، ما لم يتم تعزيز بنيتها التحتية من ناحية، وحمايتها ودعمها من ناحية أخرى. الأمر الذي يعظِّم أثرها الإيجابي على الأنشطة التنموية وبالتالي استدامتها وقدرتها على الصمود. والحق أن سلطنة عُمان قد عمِلت على دعم التنمية الإنسانية وتعزيز هذه الأنشطة في كافة المجالات، بل لقد أنشأت صناديق لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتمويلها بُغية تمكينها وتفعيل دورها التنموي في الدولة.

لذا ونحن نطالع الاهتمام المتزايد بالاستثمار في الانتعاش بعد حالات الفتور والانهيار الاقتصادي العالمي، نتساءل عن حال الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالقطاع الثقافي وهي أنشطة ذات أبعاد اجتماعية وتنموية؛ فقد أثَّرت الجائحة على أصحاب المشروعات الحرفية والصناعات التقليدية، ودور النشر والسينما وغيرها، كما أثَّرت على أنشطة الفرق الفنية خاصة الفرق الموسيقية والإنشادية إضافة إلى الأنشطة الاستعراضية والمسرحية؛ فعلى الرغم من محاولة هذه الأنشطة اللجوء إلى الاستفادة من التقنية سواء برامج العرض، أو أنشطة التجارة الإلكترونية أو وسائل التواصل الاجتماعي، إلَّا أن الجائحة بكل تداعياتها أدت إلى تفاقم التحديات التي تواجه هذه الأنشطة خاصة الفنية منها، لأنها غير قادرة على الصمود؛ فهي أنشطة أهلية لا تتمتع بالحماية الاقتصادية وبالتالي فإنها تنهار أمام أي تحدٍ قد تواجهه.

ولهذا فإن الحماية الاقتصادية للأنشطة الثقافية تقوم عن طريق (مستثمرين) قادرين على الاستثمار في الانتعاش الثقافي الذي يسهم بشكل مباشر في حوكمة هذا القطاع واستدامته، بحيث يستطيع تقديم دوره التنموي؛ فما يحتاجه القطاع هو تأمين الاستثمار، والمساهمة في تحسين الأداء الاقتصادي لهذه الأنشطة، وبالتالي تمكين دورها التنموي وتعظيمه، لتكون قادرة على الصمود والاستدامة.

فأين مؤسسات القطاع الخاص من الاستثمار في الانتعاش الثقافي إذا ما علمنا أن كبريات شركات العالم اليوم تستثمر في هذا القطاع التنموي الواعد؟

ذكرت صحيفة (الصين اليوم) في عددها الصادر في يوليو 2021 ضمن تقرير لها بعنوان (الصناعات الثقافية والإبداعية وقوة الصين الناعمة)، أن حجم الصناعات الثقافية والإبداعية في الصين تعاظمت خلال الخطة الخمسية الثالثة عشرة (2016-2020)؛ التي ركَّزت على هذه الصناعات باعتبارها (ركيزة للاقتصاد الوطني، ونقطة نمو اقتصادي جديدة)، حيث هدفت هذه الخطة إلى الارتقاء بهيكل هذه الصناعات وتنمية البنية التحتية الأساسية لتحفيز الاستثمار في هذه الصناعات وتيسيره، إضافة إلى تطوير الإجراءات التشريعية والإدارية الخاصة بها.

وبناء على هذه الخطة فقد بلغ عدد المؤسسات الثقافية في الصين في النصف الأول من عام 2020، (نحو 59 ألف مؤسسة مقارنة مع 50 ألف في عام 2016، بزيادة بلغت نسبتها 18%)، كما زاد عدد المجمعات الثقافية في الصين؛ حيث بلغ "عددها أكثر من 2600 مجمع صناعي ثقافي)، وعلى الرغم من تداعيات الجائحة في الصين، إلاَّ أنه في العام 2019 أنتجت الصين (850) فيلما روائيا، وبلغ عدد شاشات السينما فيها (69787) شاشة، وحقق قطاع السينما إيرادات من شباك التذاكر بلغت (64.266) مليار يوان، من بينها (41.175) مليار يوان للأفلام المحلية، أي بنسبة (64.07%) من إجمالي الإيرادات. -حسب التقرير-. فعلى الرغم من الجائحة وتأثيراتها الهائلة على الصين إلا أنها استطاعت أن تحقق استثمارات كبيرة في مجال الصناعات الثقافية والإبداعية، الأمر الذي يدلنا على قدرة هذا القطاع بتنوعه وثراءه على جذب الاستثمارات إذا ما تم العمل عليه باعتباره ركيزة اقتصادية، وقدرة استثمارية جديدة، يمكن أن تُسهم في الانتعاش الاقتصادي المستدام حتى في القطاعات الأخرى خاصة السياحة.

ومع توجهات الدولة للاقتصاد الرقمي، والتنمية الرقمية في كافة القطاعات، والتنويع الاقتصادي والاستثمار التنموي في المحافظات، فإن الحاجة إلى الاستثمار في الانتعاش الثقافي تبدو أكثر إلحاحا؛ خاصة بعد تأثيرات الجائحة على هذا القطاع في السلطنة، وما سببه ذلك من تحديات واجهت المبدعين العاملين فيه، خاصة شركات الإنتاج الصغيرة في المجالات الفنية ومؤسسات النشر، ودور السينما وغيرها، مما أدى إلى تفاقم الإشكالات الاقتصادية الفردية والمؤسسية.

إن فرص الاستثمار في الانتعاش التي تمنحها مجالات الثقافة في السلطنة في ظل التعافي، والعمل على تسريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تعتمد على قرارات (تطوير الصناعات الثقافية والإبداعية) في الدولة باعتبارها ركيزة اقتصادية، وإيجاد شراكات تنفيذية بين القطاع الثقافي والقطاعات الاقتصادية (الصناعية والتجارية). الأمر الذي يمكن أن يقدم رؤية واضحة عن هذه الفرص الاستثمارية الواعدة في هذا القطاع الحيوي، ويُسهم في انتعاش الثقافة وصناعاتها الإبداعية، ويمكِّن الشباب المبدع، ويؤمِّن وظائف إبداعية وأنشطة ثقافية مستدامة، قادرة على الصمود.

لقد أولت سلطنة عمان الصناعات الثقافية اهتماما كبيرا منذ عهد النهضة، وآن الأوان أن يتم استثمار هذه الصناعات استثمارًا إبداعيا مستدام، يُسهم بشكل مباشر في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدولة، فكما قدمت الصين – حسب التقرير السابق – في العام 2009 برنامج (نهضة الصناعات الثقافية)، وأعدت خطة استراتيجية تنفيذية شملت دعم المشروعات الثقافية الرائدة الصغيرة والمتوسطة، وتطوير التشريعات وقوانين الملكية الفكرية، وضخ استثمارات هائلة في تطوير هذه الصناعات، حتى تم دمج هذا القطاع في الاقتصاد المحلي باعتباره (قوة اقتصادية) لتصبح الصين اليوم في مقدمة الدول المستثمرة في الثقافة. يمكن لنا أن ندعم ما قدمته استراتيجية الثقافة من مبادرات لتكون برامج فاعلة ومؤثرة للاستثمار في الانتعاش الثقافي في المرحلة القادمة، وأن نرى نتائج هذا الاستثمار في شركات صناعية ثقافية ممكَّنة ومستدامة.