الابتلاء كمفهوم إنساني
الحياة الإنسانية في ألوانها المختلفة وأطوارها المتعددة هي مجال واضح وكبير لمفهوم الابتلاء الذي يعكس جوهر الموقف الإنساني في الحياة، والابتلاء كذلك مفهوم من مفاهيم القرآن دال على الطبيعة التي تحكم الحياة الإنسانية عامة.
ذلك إن الابتلاء هو جوهر هذه الحياة الدنيا؛ فهو كذلك أحيانًا يتخفى في حالات، ومواقف وأطوار إنسانية تشتبه في ظاهرها على النظر العقلي البسيط، لكن أي تأمل فيها يدل بوضوح على أن ذلك الابتلاء سنة للحياة لا تقوم اختلافاتها الملجئة لحاجة الناس لبعضهم البعض إلا بها.
لهذا فإن أي نظر عقلي يتجنب ملاحظة معاني الابتلاء في المواقف الإنسانية المختلفة، لن يهتدي في معالجاته بما يدله إلى الصواب في فهم مشكلات البشر.
الأديان عالجت مشكلة الابتلاء، لكن التفسيرات الدينية لاسيما في المسيحية الأوروبية للعصور الوسطى ثبَّتت مفاهيم لا علاقة لها بمفهوم الابتلاء، وأدخلتها ضمن مفهوم الابتلاء كمفهوم «الخطيئة» فعطلت بذلك دلالة المعنى الحقيقي لقيمة الابتلاء، وذلك بتأييد فكرة الخطيئة في الذات الإنسانية، وهي فكرة فضلاً عن كونها إعاقة أبدية لتطلعات الإنسان، فإنها أيضاً لا تستقيم مع مفهوم الكرامة الإنسانية.
لقد كانت قناعة الناس بثبات الحدود الأبدية للغنى والفقر بين البشر (كما كانت تدعو الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى) من أهم المفاهيم التي عالجها التنوير، كما تقول الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت في كتابها: «في الثورة» فتغَّيُرْ نظرة الناس للحدود الأبدية (المبررة دينيًا برسم الصكوك المقدسة) في العصور الحديثة هو من أهم الأسباب التي أدت إلى حركة النهضة الأوربية، وما تلا ذلك من حركات تاريخية؛ كحركة تحطيم النظام الإقطاعي (الثورة البرجوازية) والثورات التي انتظمت أوروبا بعد ذلك؛ كالثورة الصناعية والثورات السياسية وعلى رأسها الثورة الفرنسية في العام 1789م.
لقد كانت تلك الثورات البشرية شكلًا من أشكال التصرف العملي مع أحوال الابتلاء، وكانت المعالجات المتصلة بذلك كالنظريات الفكرية والفلسفية والسياسية تدور في فلك حل تلك المشكلة الإنسانية، بعيدًا عن الدين (المسيحية الأوروبية للعصور الوسطى)، وأفضت في تفاعلاتها المختلفة إلى تغييرات جذرية في أحوال المجتمعات الأوربية التي دخلت في التنوير وصولًا إلى الحداثة و ما بعد الحداثة.
لكن الابتلاء كحقيقة قديمة ومتجددة لظاهرة الحياة الإنسانية ذاتها، وكسنة من سننها يظل باستمرار يطرح تحديات أخرى أمام كل معالجة، بحيث يمكننا القول: إن المعالجات التي تتصل بحلول لا تستصحب فهمًا لمغزاه ستظل معالجات ناقصة.
صحيح أن فكرة الصراع جزء من الآثار التي يعكسها تفاعل البشر مع الابتلاء، إن خيرًا وإن شرًا، لكن تظل هناك حاجة لتأويل معرفي يقترح تصورات عن حقيقة الابتلاء بما يسهم في تفسيرها بطريقة تترشد معها الرؤية لتلك التناقضات الظاهرية التي يقوم عليها مفهوم الابتلاء أصلاً.
نعتقد أن أي تصور لتفسير مفهوم الابتلاء والتناقضات التي يطرحها ذلك المفهوم على حياة البشر كافة سيكون قاصرًا ما لم يستصحب في منهجية التفكير بعدًا فلسفيًا عميقًا ينظر إلى ما رواء الظواهر.
ذلك أن ما تشي به ظاهر أحوال الإنسان وأطواره في الابتلاء -خيرًا وشرًا- يقتضي تأملًا وتفكيرًا منه، من حيث النظر إلى حاله - ليس انطلاقًا من لحظته الخاصة المتصلة بما يفتقده هو مما عند الآخرين - (فيما هو في الوقت نفسه يمتلك - في جانب آخر - مالا يمتلكه أولئك الآخرون) ومتى ما تأمل العاقل في ذلك المعنى سيقف على حقيقة إنسانية أخرى هي: عجز الإنسان عن الاكتمال من حيث هو إنسان! الأمر الذي يفسر جزءًا من أسرار مفهوم الابتلاء في كونه حالة ضرورية لاكتمال حياة الناس عبر احتياجهم لبعضهم البعض كما قال القرآن الكريم: «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا «
فتسخير البشر لبعضهم البعض كي تكتمل الحياة في مختلف أطوارها وتستمر؛ هو معنى من معاني الابتلاء، وبالتالي فإن وجود الابتلاء كحالة ثابتة في مختلف أطوار البشر في هذه الحياة هو جزء من اعترافهم بنقصهم ومن ثم حاجتهم إلى بعضهم البعض.
بطبيعة الحال هذا لا يعني تثبيتًا لحدود أبدية لأحوال البشر في الفقر والغنى (كما فعلت المسيحية الأوربية في العصور الوسطى)، وإنما لتحسين الأحوال المتنقلة - فقير وغني - داخل تلك الحدود.
محمد جميل أحمد كاتب من السودان