الابتكارات الاجتماعية ودروس الجائحة
عندما عصفت جائحة كورونا وتغيرت أنماط الحياة والعمل، بدأت في المقابل تزدهر الابتكارات الاجتماعية، ومعها تسارعت ريادة الأعمال القائمة على الابتكارات الموجهة لتحديات التعايش مع الوباء، وذلك على نهج المثل العربي القائل: " مصائب قوم عند قوم فوائد"، ففي ذلك الوقت العصيب كان الاحتياج الحقيقي يكمن في خلق حلول مبتكرة يمكنها تحقيق نتائج استثنائية في مواصلة تفاصيل الحياة اليومية، وتحسين حياة الملايين الذين تضرروا اقتصادياً من الإغلاقات وتدابير التباعد الاجتماعي.
ومثلما استطاعت دوائر الأعمال والمؤسسات من الاستجابة والتكيف بانتهاج مسارات التعليم والعمل عن بعد، كذلك ظهرت ابتكارات اجتماعية رائدة للتخفيف من وطأة الجائحة، ولكن ومع عودة الحياة لطبيعتها هدأت وتيرة الابتكارات الاجتماعية، وهذا يفرض العديد من التساؤلات، فهل انحسر الاهتمام عن هذا النوع من الابتكارات بغياب المحفز الرئيسي لها، أو أن البشرية لم تتعلم دروس الجائحة بالشكل الذي يؤهلها لتكون قادرة على الصمود أمام حالات مشابهة في المستقبل؟
في البدء لا بد من التوقف عند أهمية الابتكارات الاجتماعية، فهي وإن كانت لا تختلف جوهرياً عن الابتكارات التقليدية، إلا أنها تتميز بتركيزها الكبير على خلق القيمة الاجتماعية مع أو بدون القيمة المالية لعوائد الابتكار، ويتطلب الأمر نهجًا متعدد الأوجه لإيجاد ودعم فرص الابتكار الاجتماعي، نظراً لكونها عبارة عن رحلة تشاركية لاكتشاف الإمكانات الاجتماعية غير المسبوقة في معالجة المشكلات أو الخروج بأفكار مختلفة وإيجابية، وهي رحلة خارج مختبرات البحث والتطوير وتجاربها العلمية الدقيقة، فالابتكار الاجتماعي لا يبحث عن التغيير لأجل التغيير، ولكن صنع التغيير كما يراه المبتكرون الاجتماعيون هي عملية مدفوعة بميزتين وهما: القدرة على الفهم العميق لحيثيات الوضع الراهن بتحدياته وفرصه الكامنة، والقدرة على خلق وضع راهن جديد عبر سلسلة قيمة التأثير، وبذلك فإن الابتكارات الاجتماعية هي أقرب للعمليات الاستراتيجية منها للاستكشافات المعرفية والتقنية.
وهذا يقودنا للنقطة المحورية هنا وهي أن معظم أنشطة الابتكار الاجتماعي، وكذلك ريادة الأعمال الاجتماعية التي تم إطلاقها خلال جائحة كورونا قد جاءت كتوجيهات طارئة من أعلى الهرم المؤسسي للأسفل، وهو المسار التقليدي لصناعة القرار الذي كان يستهدف إعادة توجيه الموارد لتلبية الاحتياجات الاجتماعية الناشئة عن تفشي الفيروس المستجد في ذلك الوقت، حيث انتهجت المؤسسات والشركات الكبرى أُطر عمل متعددة من أجل توفير حلول إبداعية لتحديات الوباء، وكان ذلك من خلال العمليات الأساسية بجانب المسؤولية المجتمعية، ولكن في الواقع لم تكن هذه الأُطر واضحة المعالم، ولم ترق إلى مستوى الاستراتيجيات المُمنهجة، ومعظم المحاولات التي ظهرت لم تنجح، فقد أدى تفشي كوفيد-19 إلى إحداث ضغط هائل وغير متوقع على جميع الجهات الفاعلة في منظومات الابتكار، ونتج عن ذلك استجابات مختلفة وسريعة دون وجود أي معيار مرجعي لتحديد أولويات التركيز، وفي ذات الوقت ظهرت العديد من الابتكارات المجتمعية خارج المحيط الرسمي لإنتاج المعرفة وتطوير الأفكار الابتكارية، والتي كانت في مجملها مبادرات فردية أو جماعية؛ وهي تمثل المسار المقابل للنهج التقليدي، فقد انبثقت هذه المبادرات من قاعدة الهرم للأعلى، وبذلك فإن النقطة العمياء الكبرى التي يجب تفاديها تكمن في البحث عن الإجابة على هذا التساؤل: ما هي الاستراتيجيات التي يجب أن تقود مبادرات دعم الابتكار وريادة الأعمال الاجتماعية في وقت الأزمات؟ وكيف يمكن رسم استراتيجيات اغتنام الفرص الذهبية التي تنشأ في الحالات الاعتيادية؟
في البدء لا بد أن نشير إلى أن التغلب على النقاط العمياء يتطلب تحليلًا استقرائيًا واستكشافيًا لأحداث الجائحة، وذلك من حيث التعرف إلى القرارات الحاسمة التي اتخذتها بعض منظومات الابتكار العالمية، وعلى سبيل المثال فقد عرَّفت الصين آنذاك مجالين رئيسيين للابتكار وهما: إنتاج الأقنعة الطبية، وتوفير الحلول لتسريع اختبارات الأحماض النووية، وهو قرار يتبع النهج التقليدي من أعلى الهرم إلى الأسفل، وتبنت شركات الابتكار الصينية هذا التركيز الاستراتيجي، في حين جاءت الأنشطة الاجتماعية التي تم إطلاقها بالتزامن مع جهود التطوير التكنولوجي لنقاط التركيز من أجل رفع التوعية المجتمعية بشأن الالتزام بالاحتياطات المطلوبة، والمبادرة بإجراء الفحوصات الدورية، وظهرت العديد من الابتكارات المجتمعية التي تسعى لتسهيل فترات الإغلاق، واستثمار مورد الوقت بشكل يعود بالنفع على الأفراد والمجتمع، وهذه التفاعلات الاجتماعية الجديدة هي التي أكسبت الجهود المؤسسية المرونة في تنفيذ الإجراءات الاحترازية، وساهمت بشكل كبير في انتشار أنماط الاستجابة الابتكارية، وأتاحت فرصة التطوير المحتمل لاستغلالها تجارياً في مرحلة ما بعد الوباء، فخلال الأوقات الحرجة التي تحركها الأزمات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الصحية، يمكن أن تنشأ الابتكارات الاجتماعية المدفوعة بمزيج من الاحتياجات الطارئة، أو المخاوف المستقبلية، ولكن يجب أن ينظر إلى هذه الابتكارات بشكل جِدِّي وباهتمام كبير، لأن ظهور هذا التحدي في الأوقات الاستثنائية يعكس وجود الحاجة للتغيير من قبل حلول الأزمة، ولذلك فإن ابتكارات الجائحة يمكنها أن تطرح نماذج جديدة، وحلولاً أفضل ملاءمة في ظل الظروف الاعتيادية.
إن تعزيز مسارات الابتكار الاجتماعي هو في صميم الدروس المستفادة من جائحة كورونا، وهو جزءٌ لا يتجزأ من صناعة المستقبل، إذ يستوجب أولاً تعريف أشكال الابتكار الاجتماعي الأكثر أهمية في عالم ما بعد الوباء، ثم توظيف مسارات متوازية في إحداث الآثار المجتمعية المنشودة، وذات النطاق الواسع، وفتح آفاق جديدة لعبور الفجوة بين الابتكارات الناشئة في الظروف الاستثنائية، وتلك التي ترتبط بالتحديات التقليدية، واعتماد المرونة والرشاقة الاستراتيجية كمبدأ أساسي لإعادة التفكير في الدور الحاسم للابتكار المجتمعي في مواجهة التحديات غير المسبوقة، وذلك عبر وضع استراتيجيات طويلة الأمد، بحيث تستهدف توجيه اغتنام الفرص باستمرار، وفي ذات الوقت تعمل على معالجة التغييرات غير المتوقعة وتنفيذ استجابات سريعة ومبتكرة، و في سياقات اجتماعية واقتصادية معاً، وتأصيل أنماط التعلم من التجارب السابقة للوصول لعمق العلاقة التكاملية بين المعرفة والابتكار ورأس المال الفكري وريادة الأعمال الاجتماعية.
د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.