الابتكار العكسي ومتلازمة «لم يتم اختراعه هنا»
في عام 2009م، نشرت دورية هارفارد للأعمال (Harvard Business Review) مقالًا بعنوان «كيف تقوم شركة جنرال إلكتريك بتعطيل نفسها»، وبعد مدة من الزمن صنفت الدورية هذا المقال كواحد من أكثر مائة مقال منشور تأثيرًا وإبداعًا على الإطلاق، قام بتأليف المقال المبتكر فيجاي جوفينداراجان بالمشاركة مع الرئيس التنفيذي السابق لشركة جنرال إلكتريك جيف إيميلت، قدم هذا المقال مفهومًا جديدًا كليًا في إدارة الابتكار وهو الابتكار العكسي، وذلك بعد ظهور مصطلح الابتكار المقتصد في الأدبيات والممارسات، حيث كتب المؤلفون بأن «الابتكار العكسي سيصبح أكثر شيوعًا، فهو -بكل بساطة- أي ابتكار من المرجح أن يتم تبنيه أولًا في منظومات الابتكار الناشئة قبل أن ينتقل إلى النصف الشمالي؛ حيث الاقتصادات المتقدمة والقائمة على الابتكار والمعرفة»، وحرفيًا لم يسمع العالم شيئًا عن الابتكار العكسي قبل هذا المقال، ولا يزال الجدل مستمرًا بعد مرور عقد ونصف من نشوء هذا المفهوم الذي انبثق عن عمل جوفينداراجان مع شركة جنرال إلكتريك في إنشاء أول جهاز تخطيط القلب الكهربائي المحمول في العالم، وذلك لخدمة احتياجات المرضى في الأماكن النائية من الهند، وهذا الابتكار الذي أنتجته شركة (GE Healthcare) يتماشى مع كل من الابتكار المقتصد والابتكار العكسي، وتنصب جهود الباحثين والمفكرين في تقييم جدوى هذه الأنواع من الابتكارات كطرق مستحدثة لدفع النمو الاقتصادي بعيدًا عن صخب التميز في العولمة كما كان الحال في السابق، فهل تحمل هذه الابتكارات أملًا جديدًا لمنظومات الابتكار الناشئة في اللحاق بالصدارة في قائمة الاقتصادات الرائدة والقائمة على المعرفة؟
في البدء يجب الإشارة إلى أن مفاهيم الابتكار المقتصد والابتكار العكسي هي من الوافدين الجدد إلى أدبيات الابتكار، إذ يعكس الابتكار المقتصد الفكرة المتمثلة في تنفيذ الابتكار في ظل ظروف ندرة الموارد، ويشير الابتكار العكسي إلى تحول هام في فكر وممارسات النموذج السابق للابتكار، فهو يتناول ما يشبه تبادل الأدوار من حيث ظهور الابتكارات من السياقات المرتبطة بالمنظومات الناشئة، والتي يمكنها أن تدخل أسواقًا أكثر ثراء، دعونا نتوقف قليلًا عند مقابلة فيجاي جوفينداراجان، مع محطة أر. تي. أم (RTM) وكانت الحلقة بعنوان «الابتكار العكسي»، حيث قال واصفًا تجربته مع شركة جنرال إلكتريك: «... بدأت هذه الفكرة حول ما إذا كان بإمكاننا الابتكار في الهند بشأن المنتجات والخدمات الأكثر صلة بالسوق الهندية، الابتكار العكسي لا يعني الوصول إلى أسواق موجهة لذوي الدخل المنخفض؛ يتعلق الأمر كله بابتكار منتجات مختلفة قليلًا، منتجات تلبي بشكل أساسي احتياجات الأشخاص الموجودون في منتصف الهرم»، وأوضح جوفينداراجان أيضًا أن «الابتكار العكسي يمثل فرصةً هائلةً للعاملين في مجال البحث والتطوير لأخذ زمام المبادرة وتمكين عولمة المعرفة، ليس فقط في محاور تطوير التكنولوجيا، ولكن أيضًا عولمة الأفكار، إذ يمكن أن تكون الأفكار متنقلة أيضًا، ويجب أن يكون البحث والتطوير مستعدين لاستعارة المعرفة والأفكار والتكنولوجيا من كل جزء من العالم لكل جزء من العالم».
هذا يقودنا إلى السؤال الأول: ماذا في جعبة الابتكار المقتصد، والابتكار العكسي؟ في الواقع هناك الكثير من التحولات الجذرية التي حدثت على خريطة الابتكار العالمية خلال العقدين الماضيين، فمن الناحية العملية قد تغيرت بؤر ومواقع الابتكار بشكل واسع، مما يفرض الحاجة إلى تحديث نظريات ونماذج وأطر إدارة الابتكار، وقد ساهم نشوء الابتكارات المقتصدة والعكسية في خلق أسواق جديدة في كل من الاقتصادات الناشئة، والبلدان المتقدمة، وهذا التحول يستدعي زيادة اللامركزية في البحث والتطوير، وهي من العوامل الرئيسية التي تسهل الابتكار العكسي الذي لا يعتمد على مقدرات منظومات الابتكار المتقدمة وحسب، وإنما يستمد القدرة على تطبيق الابتكارات المقتصدة في سياق الاقتصاد المتقدم، حيث يتوفر العديد من المستفيدين، وخاصة خلال فترات الركود الاقتصادي، الذي يسعى فيه السوق لتوفير ابتكارات ذات مستوى من الجودة، ومنخفضة التكلفة في ذات الوقت، ولها ميزات يمكنها أن تُكسبها القبول والانتشار في الأسواق المتقدمة، وهنا مكمن التحدي؛ فإن الابتكار العكسي يتعارض مع التدفق التقليدي للابتكار، فهو يتحدى الاعتقاد السائد بأن الاقتصادات التي تتربع على قمة تصنيفات مؤشرات التنافسية والابتكار العالمي هي لوحدها مراكز وأصول الابتكارات، وأن الابتكارات تتدفق من الاقتصادات المتقدمة إلى الاقتصادات الناشئة في نسخة مجردة، والمتأمل في واقع الابتكارات المعاصرة يجد أن الاقتصادات الناشئة قد غادرت مواقعها السابقة كطرف متلقٍ للابتكار، وأصبحت في طليعة المبادرين، وصارت تتزاحم أسواقها ومعارضها بالابتكارات الفريدة والمؤطَّرة لتلبية الاحتياجات المحلية وبتكلفة اقتصادية مجدية، ومعظم هذه الابتكارات تجد طريقها في الانتشار في أسواق أخرى مماثلة وفي بلدان بعيدة جغرافيا عن منشأ الابتكار، كما يتم تبني بعض هذه الابتكارات من قبل المنظومات الابتكارية المتقدمة؛ لأنها تلبي احتياجات مجموعة معينة من المستفيدين، ويمكنها أيضًا أن تكون مصدر إلهام المبتكرين المحليين في تلك الاقتصادات، ومع جميع هذه الميزات، فإن التحدي الأساسي الذي يواجه الابتكار العكسي يكمن في التحديات الثقافية النابعة عن مدى تقبل منظومات الابتكار المتقدمة للابتكارات التي نشأت في منظومات أقل تطورًا، وهذا التحدي يطلق عليه مصطلح «متلازمة لم يتم اختراعه هنا»، وهذا لا يقتصر على الابتكارات المنبثقة عن المبتكرين الأفراد أو المؤسسات التطويرية والابتكارية القائمة في الاقتصادات الناشئة، إذ يشمل أيضًا الشركات متعددة الجنسيات، ففروعها في الخارج تظل متحفظة في الانخراط في الابتكار العكسي خشية أن تتعارض أجندات البحث والتطوير في الخارج مع الأدوار الأصيلة للشركة الأم، وهذا ما يجعل من مساهمة الشركات متعددة الجنسيات محدودة على الرغم من أن المقرات الرئيسية لهذه الشركات تسعى إلى تفعيل الابتكار العكسي في فروعها الخارجية.
ولا تنتهي «متلازمة لم يتم اختراعه هنا» عند الطرف المستقبل للابتكارات العكسية، وإنما هناك تحديات عديدة في سياق التقبل الكامل لهذه الابتكارات في المنظومات الناشئة التي احتضنت هذه الأفكار، فقد أدى التقدم التكنولوجي الهائل، وخاصة في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إلى تغيير الطريقة التي يعيش بها الناس، ويعملون ويقضون أوقات فراغهم. وتؤثر شبكات المجتمع العالمي على أذواق الناس وتفضيلاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبذلك فإن منشأ الابتكارات لا يقل أهميةً عن المنتجات المبتكرة ذاتها، فالمستفيدون لا يبحثون عن الابتكارات الخارقة ونماذج الأعمال الفريدة وحسب، ولكنهم يضعون الكثير من الاعتبارات للمزايا المعنوية لمنشأ هذه الابتكارات، حتى وإن كانت الحلول الواقعية لتحدياتهم متوفرة في الابتكارات العكسية المحلية، وهذا يضع عبئًا إضافيًا على المنتجين في كيفية تحويل الطلب الكامن على الابتكارات المحلية إلى طلب نشط؛ لأن فوائد الحلول المقدمة في هذه الابتكارات ليست واضحة لمعظم المستفيدين في الأسواق الناشئة.
إنَّ قدرة شركات التكنولوجيا ذات الابتكارات الموجهة والدقيقة على الاستفادة من إمكانات الابتكار العكسي تزيد من احتمالية نجاحها وبروزها في مشهد الابتكار العالمي، وبالتالي الحصول على القيمة السوقية لمنتجاتها التي تستهدف الشريحة الوسطية وقاعدة الهرم المجتمعي، ففي حين يهدف الابتكار المقتصد إلى خدمة المستفيدين في الأسواق الناشئة، فإن الابتكار العكسي، كما يشير اسمه يعكس اتجاه سلسلة المنظومة، وبالتالي يوفر فرص الاستفادة من الندرة لخدمة شريحة أعلى الهرم من المهتمين بالقيمة الحقيقية للابتكار في البلدان المتقدمة، وفي ذات الوقت يسمح بالاستفادة من الفرص التسويقية للابتكارات التي تضع الحلول الفعلية للتحديات البومية على المستوى المحلي، والتي هي محل اهتمام الشرائح الأخرى للهرم المجتمعي.
ومع ذلك، فإن رسم خط فاصل بين الابتكار التكنولوجي والابتكارات المقتصدة والعكسية هو أمر لا يخلو من الصعوبة، فالتفكير الابتكاري «القائم على الحاجة» يمكن أن تنشأ عنه الأفكار الجديدة التي تلائم الأسواق الناشئة والمتقدمة على حد سواء، وهذا يفرض إيلاء الأهمية القصوى لدمج خطوط إنتاج المعرفة مع ثقافة الابتكار اللامحدود الذي لم يعد حكرًا على الاقتصادات المتقدمة ذات الدخل المرتفع وحدها، وكذلك يستوجب إعادة هيكلة رؤية بديلة للابتكار، بحيث تكون بعيدة كل البعد عن التحيز المؤيد للمسارات التقليدية في دورة الابتكار ذات المراحل الكلاسيكية، وهنا تظهر أهمية الحرص على التجديد الفعلي عن طريق الوصول للأفكار والمواهب الجديدة، وتطويعها لمتطلبات الأسواق المستهدفة، مع الفهم العميق للفرص والقيود وديناميكيات هذا السوق المحتمل، وهذا من شأنه تعزيز نقل المعرفة العكسي؛ لأن قوة الابتكارات العكسية تكمن في تفوقها على خلق القيمة في جميع أنواع الاقتصادات.