الإنسان والآلة.. التوأمة والمواءمة
الإنسان الرقمي أو «رقمنة الإنسانِ» وأنسنة الآلة، مشروعات تتبناها كبرى شركات التقنية التي تسعى لتوأمة الإنسان والآلة عبر دمج النظام البيولوجي بالنظام الرقمي - تحديدًا بالذكاء الاصطناعي- من جانب، وجعل الآلة بطابع إنساني من جانب آخر؛ لتعكسَ مرحلة قد تتجاوز مرحلة الآلة الذكية التي لن تعمل -يومها- بمنظومتها الرقمية المستقلة فحسب بل ستعمل أيضا وفق توأمة «بيو رقمية» «بيولوجية - رقمية» مع الإنسان.
قبل أنْ نأتي إلى بعض مفاصل هذه التوأمة وأمثلتها الواقعية، من المهم أنْ نلتفت إلى مغزى هذه التوأمة ومآلاتها التي تحدد توجهاتنا الرقمية الحالية والمستقبلية. مصطلح الإنسان الرقمي يراد به اتصال الإنسان بالنظام الرقمي الذي يحتوي - في بعض حالاته - على أنواع الأنظمة الإلكترونية وأحجامها المختلفة المرتبطة بالأنظمة الحاسوبية وخوارزمياتها الذكية التي ستكون في مراحلها المتقدمة ممثلة بالذكاء الاصطناعي، الذي يعكس -حينها- ما يمكن أنْ نطلق عليه رقمنة الإنسان، وهذا يؤول إلى التسخير الأعلى للتقنيات لأجل خدمة الإنسان حتى في عمقه البيولوجي المعقَّد، وسنأتي إلى أمثلة ذلك في فقرات قادمة. أما أنسنة الآلة - وهنا نعني بالآلة المصطلح العام للذكاء الاصطناعي-؛ فهو جعل الآلة تمتلك القدرات الإنسانية بدءًا من آلية التفكير والتحليل والحركة (الأتمتة) وانتهاء بامتلاك الآلة المشاعر الإنسانية، وهذا الهدف الأخير هو ما يحقق الأنسنة المطلوبة.
التقدم العلمي -الحالي- تجاوز مرحلة الخيال العلمي في سبيل صناعة واقعية لرقمنة الإنسان وأنسنة الآلة، وهناك أشكال كثيرة أخذت طابعها العلمي المبني على صناعة هذه التوأمة وتحققها. العديد من نماذج التوأمة باتت واقعًا لا يمكن إنكاره، منها ما يُعرّفه الوسط العلمي بمشروع «الإنسان الخالد» الذي يعمل على صناعة نسخة رقمية للإنسان عبر الذكاء الاصطناعي والتجسيد الرقمي الافتراضي «مثل تقنية الميتافيرس»؛ ليحاكي النسخة الأصلية البيولوجية «الإنسان» كلامًا -بما في ذلك نبرة الصوت- وشكلًا وسلوكًا وتفكيرًا وذاكرةً..إلخ. هذه النسخة الرقمية تمرُّ بمرحلة تدريب تستقبل بيانات الإنسان البيولوجي المُراد استنساخه رقميًا، والبيانات تشمل الأفكار والمعلومات وطريقة الحديث ونبرة الصوت وكل ما يمكن أنْ يُعتبر بيانات يملكها هذا الإنسان وتفاصيل حياته المهمة. هذا المشروع - ومن أمثاله الكثير- الذي يعكس توأمة الإنسان والآلة خرج من أروقة المختبرات، وتحقق واقعا ولو بمحدودية انتشاره حتى اللحظة، وحتى يومنا خرجت عدة نسخ رقمية لبعض الشخصيات العلمية تُثبت نجاح هذه التوأمة التي تُعبّر عن أنسنة الآلة وعن رقمنة الإنسان حتى وإنْ لم تكتملْ عناصرها الروحية التي تمنح الآلة الصبغة الإنسانية الكاملة إلا أنَّها تصب في رفع سقف ثقتنا بالعلم وقدراته في حال أنّ توجهاتها تصبُ في مصلحة الإنسان من حيث رفد تجربته الإنسانية؛ إذ من الشيّق أنْ نرى شخصيات ماضية -حال توفر بياناتها الكافية- بصمتها العلمية والحضارية حاضرة ولو بكينونتها الرقمية؛ لتكمل مسيرة التقدم الحضاري عاكسة جانبًا مفيدًا لمشروع الإنسان الرقمي، وأنسنة الآلة التي تتقمص دور الإنسان وشخصيته.
هناك أيضا مشروع يحمل الطابع العلمي نفسه وبتوقعات أكثر تعقيدًا يُعرف بتحميل الدماغ ونسخه، وعلميا يُعرف بـ«مضاهاة الدماغ كله» «Whole Brain Emulation»، ويهدف إلى نسخ كامل للدماغ البشري وتحميله في النظام الرقمي «الحاسوبي»، وهذا حتى اللحظة ما تزال الأبحاث تعمل عليه نظرًا للتعقيد البيولوجي للدماغ وللمتطلبات الحاسوبية الفائقة. مشروع «الإنسان الخالد» أو كما يحلو لي أنْ أطلق عليه «الإنسان الرقمي» ليس المشروع الوحيد الذي يُدرج تحتَ مظلة مشروعات توأمة الإنسان والآلة ومواءمتهما؛ فثمّة مشروع التحكم الرقمي «الحاسوبي» بالدماغ البشري عبر الشرائح الإلكترونية الدقيقة المتصلة بالدماغ، وأحد أشهر هذه التقنيات يمكن أنْ نطلق عليه «شريحة إليون ماسك الدقيقة» التي صممتها إحدى شركاته المعروفة بـ«Neuralink». هذه التقنية تستعمل شريحة إلكترونية صغيرة جدًا مرتبطة بأجهزة استشعار دقيقة جدًا تتصل بدماغ الإنسان، وبواسطة الذكاء الاصطناعي تقوم بتسجيل النشاطات الدماغية وتحليلها؛ لتساعد الإنسان في القيام ببعض الوظائف المعطّلة مثل الشلل أو العمى عبر أوامر «رقمية» يتلقاها الدماغُ ليعيد إرسالها إلى الأعضاءِ المعطلة في الجسم. قام القائمون على هذا المشروع بتجربة هذه التقنية على بعض الحيوانات وسطَ نجاحات وإخفاقات، إلا أنّ النتائج كانت مبشّرةً، ومع ذلك لم تُعطَ هذه التقنية الضوء الأخضر -حتى اللحظة - للاستعمال الرسمي والواسع مع الإنسان. هذه التقنية التي تبرز اندماجًا بين الآلة «يشمل النظام الرقمي بما فيه الإلكتروني الدقيق والذكاء الاصطناعي» والإنسان؛ بحيث يبدو الإنسان -حينها- مرتبطًا بنظام رقمي يعكس الصورةَ المقصودة للإنسان الرقمي.
مثل هذه الأمثلة المتعلقة بمشروعات تتبنى توأمةَ الإنسان والآلة هي جزء يسير من مشروعات كثيرة تضاعفت -كمًا ونوعًا- مع ثورة الذكاءِ الاصطناعي وتطوره المتسارع. هذه المشروعات سبق -قبل سنواتٍ قليلةٍ- أنْ عُدّت مجرد أبحاث داخل غُرف المختبرات العلمية الضيقة، وتنتظر خروجها للعالَم الواقعي الواسع. أحدُ الكتب المثيرة التي تناولت مثل هذه التقنيات هو كتاب لعالم الفيزياء الأمريكي «ميتشو كاكو» «Michio Kaku» بعنوان «فيزياء المستقبل: كيف سيشكل العلم مصير الإنسانِ وحياتنا اليومية بعام 2100» «Physics of the future: How science will shape human destiny and our daily lives by the year 2100». هذا الكتاب وقت خروجه في عام 2011 كان بمثابة كتاب استشرافي يكشف لنا قادمَ التقنيات العلمية وتطبيقاتها التي ستلامس حياتنا، ومنها ما يتعلق بمشروعات توأمة الإنسان والآلة مثل التي سقتها في موضع سابق من هذا المقال. يومها، كان كثير من هذه المشروعات يتناولها العلماء في حدودِ التجارب، وإنْ تعدى القليل منها مرحلةَ التجربة إلى التطبيق الواقعي، إلّا أنَّ ذلك يشعرنا بمدى التطور العلمي وتسارعه الكاشف عن عمق علاقة الإنسان بالآلة، وحجم هذا الاندماج الذي يُظهر وجهًا مشرقًا يكشف لنا أهمية هذه التحولات في حياتنا، وفي المقابل يُظهر وجهًا مظلمًا يؤرق العلماء، ويُحذّر من مستقبل يهدد الهوية الإنسانية واستقرار حياتها بعد أنْ يصبح الإنسان جزءًا من المنظومة الرقمية؛ ليكون رهين التحكمِ الرقمي وهيمنة الآلة التي هي الأخرى سترقى إلى المستويات الإنسانية «الاصطناعية» عبر مشروعات الأنسنة.