الإنسان .. لا الخرائط
تسجل الكهوف والمغارات، صورًا لشيء ما ينضوي تحت مفهوم الخارطة، بالإضافة؛ وفي أوقات متقدمة؛ وثقت الكثير من المخطوطات تفاصيل مهمة في هذا الاتجاه؛ حيث تنسب أول خارطة معتمدة رسمها العالم محمد بن محمد الإدريسي في عام 1154م -كما توثقه المصادر- وهذا يعكس مدى الأهمية التي تشكلها الخارطة في حياة الإنسان، منذ البدايات الأولى لعمر المعرفة، والمناقشة هنا لا تذهب إلى المعنى المجرد لمفهوم الخارطة الجغرافية «الطبيعية» (المتعلقة بالجغرافيا) وإنما تستحضر مجموعة المفاهيم التي اشتقت من مفهوم الخارطة، فالخارطة الطبيعية تظل محددة بخطوط الطول والعرض، حتى تبين المواقع؛ سواء المواقع الطبيعية، أو السكانية، أو الأحوال السكانية واشتغالاتهم المختلفة، فتعطي كل حق حقه؛ وفق رؤية التجريد، أما المفاهيم المشتقة من مفهوم الخارطة، فهي كل ما يصوب مختلف المسارات التي تجعل حياة الإنسان أسهل، وتحركاته منظمة، وممارساته لها مردود إيجابي رفيع، فالعشوائية لن تبني حضارة، ولن تؤسس منطلقًا إنسانيًا مرتكزًا على ثوابت وقواعد ماكنة، والهدف المرتجى من هذا الانحياز نحو الخارطة هو خدمة الإنسان، وتمكنه من توظيف كل إمكانياته المادية والمعنوية بصورة حكيمة، وصادقة وأمينة، فالإنسان هو محور هذا الكون، وسعادته وتفوقه هو الغاية، فهو صاحب الأمانة الكبرى التي ناءت عنها السموات والأرض (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) -الآية (72) سورة الأحزاب.
مصطلح الخرائط مصطلح متعدد العناوين، والاتجاهات والمعاني، وبقدر هذا التعدد في مفهوم الخرائط؛ إلا أن هناك خرائط رئيسية تظل حاضرة في الذاكرة بصورة يومية، فهناك الخرائط الجغرافية، والخرائط السياسية، والخرائط الاجتماعية، والخرائط الاقتصادية، والخراط الثقافية، وقد تلحق بها الخرائط الدينية، وأقربها مودة هي الخرائط الذهنية؛ ومودتها تأتي من كونها الأقرب إلينا، ونعيش تفاصيل دروبها تقاطعاتها بصورة لحظوية؛ لحظة بلحظة، فوق أن تجديدها مستمر، وإحداثياتها قابلة للتغير، والتغيير في آن واحد، وكل ذلك بإرادتنا الشخصية، دون أن نتلقى أي إلزام في شأن ذلك كله، إلا فقط ما توحيه إلينا مكاسبنا اليومية، من خير وشر، وبقدر ملكيتنا لخرائطنا الذهنية؛ إلا أنه حتى هذه الملكية كثيرا من تتداخل عليها عناصر التشويه، فتربكنا في كثير من مناخات حياتنا الإنسانية، حيث نعيد في كل مرة ترتيب أولوياتنا، ونعيد مستويات قناعاتنا، ومواقفنا، حيث نلغي هذا، ونضيف آخر، مع أن من نلغيه ونضيفه هو واحد منا نتقاسم معه حلو الحياة ومرها، وتستظلنا سماء واحدة، وتحملنا؛ بكل أعبائنا أرض واحدة، ومع ذلك فلا نزال ننتصر مع خرائطنا الذهنية، ونرى في هذه الممارسات اليومية في حالات الإضافة والحذف هو نوع من التمكن بمجريات أمورنا اليومية، وأننا نسير في اتجاه الصحيح، حيث خارطة طريقنا التي نريد.
تحتل الخارطة السياسية أولوية قصوى في اهتمامات البشر؛ على وجه الخصوص؛ وتأتي هذه الأهمية من مساحة التفاعل التي تتيحها هذه الخارطة حيث ترسم الأجندات، وتوضع الخطط، وتنفذ البرامج، مع أن الكثير مما يرسم عبر هذه الخارطة لا يذهب إلى ما من شأنه أن يضيف بعدًا إنسانيًا آمنًا، مع أن المخطط هو إنسان، والمنفذ هو إنسان، والباحث عن الأمن والاستقرار هو إنسان، ومع ذلك تذهب الخارطة السياسية إلى ما يقوض العلاقة بين الإنسان والإنسان، وتكون النتيجة خارطة مشوهة في كل تقاطعات خطوط الطول والعرض، ولا توجد علاقة وثيقة مع الخارطة الاجتماعية التي تذهب إلى الالتحام الإنساني والتآزر الإنساني، والتوافق الإنساني، وتأتي الخارطة الاقتصادية التي تمسك العصا من المنتصف، حيث تلعب على المصلحتين، فلا هي قادرة على أن تنحاز انحيازًا تامًا إلى البعد السياسي، ولا تنحاز انحيازًا تامًا إلى البعد الاجتماعي، حيث تبقى عناصرها الفاعلة مع الطرفين، ولا يمكن أن تستغنى عن أحدهما، فإذا كان البعد السياسي عبر خرائطه الكثيرة يذهب إلى حيث العزف على وتر المصلحة، فإن البعد الاجتماعي يذهب إلى حيث العزف على وتر التعايش الإنساني، والعمل على كل ما يفترض أن يعزز وجوده، ويفتح له مجالات البقاء الإنساني؛ هذا البقاء الذي يتهدده الكثير من المؤثرات القيمية الزاحفة إليه من كل حدب وصوب.
يحضر اليوم مصطلح «خارطة طريق» ويوظف هذا المصطلح لتنفيذ أجندات؛ أغلبها؛ سياسية، حيث ولد هذا المصطلح، والمحزن المبكي في هذا الأمر أن مخترع هذا المصطلح هو الإنسان، والمناور فيه هو الإنسان، والمخدوع فيه هو الإنسان، والخادع هو الإنسان، وتأتي بقية الإسقاطات؛ سواء المتعلقة بالجغرافيا، أو بالمشروعات، أو بالتوجهات، أو بالسياسات، لإضفاء نوع من التخفيف من حدية المصطلح، أو المناورة على أهدافه وتوجهاته، وما لا يعقل في هذا الشأن هو هذه المناورات من الأفعال للزج بالإنسان في متون التوهان، وعدم الاستقرار، أو قل العذاب النفسي، وفي نهاية المطاف الجميع خسران، ويظل الرابح هو الزمن الذي استقصى أعمار البشرية بكل دقة دون أن تضيع ثانية واحدة من عمره، ومع ذلك يمكن أن تستحدث خارطة طريق أخرى لموضوعات أخرى؛ يستهدف من خلالها الإنسان، بينما تكون محصلة الإنسان صفرا على اليمين؛ كما يقال؛ ويتكرر المشهد، ومن سر الافتتان بمفهوم «خارطة الطريق» توغل في كل مناحي الحياة، حيث ألصق بجل الأنشطة الإنسانية اليومية، فكل شيء يحتاج إلى «خارطة طريق» والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نصنع خرائطنا بأنفسنا؛ سواء أكانت خارطة طريق، أو خارطة موضوعات الحياة الأخرى؛ أم هي مفروضة علينا؟ ومن واقع الممارسة أننا كلنا مشغولون بوضع خارطة ما، لأمر ما، وهذا الاستحضار لمفهوم الخارطة ليس شرطًا أن تكون فيه خطوط الطول والعرض واضحة المعالم، للسير عليها، وتحديد مسارات الممارسات والاشتغالات من خلالها، ولكن المهم أن يكون المفهوم حاضرا، وذلك للخوف من الوقوع في مأزق العشوائية، والتماهي في مسارات الطرق المتشابكة، وبالتالي فكلما كانت مسارات الطرق التي نسلكها واضحة، كلما كانت النتائج المتحصلة بعد ذلك ذات قيمة، وتستحق الإشادة.
في عالم الخراط، كما هو في عالم الأنسنة، هناك ثمة تقاطعات بين خطوط الطول والعرض، وبقدر المساحات التي تتيحها الخرائط لنا، لنضع فيها نقاط حروفنا، فإنه في كثير من الأحيان تخدعنا هذه الخرائط، فنضطر إلى إعادة تشكيل خطوط عرضها وطولها، وعندما نقارنها بعالم الأنسنة، فالإنسان في الوقت نفسه حمالة أوجه، ولكن يبقى الفضل في الخرائط أنها تعيد تصويب اتجاهاتنا، فلا تتيح لنا تخبطاتنا غربًا وشرقًا، إلا بالقدر الذي لا يؤثر على علاقتنا بالآخرين من حولنا، فخارطة المنزل؛ على سبيل المثال، تظل حدودها هي الحكم الفصل في علاقتنا مع الآخر، فلا نعتدي على حقوقه، ولا نتجاوز حرماته، وبقدر حدود الخارطة تكون مساحة اشتغالاتنا مع أنفسنا، ومستوى حرياتنا الشخصية، يبقى الجهد المقدر للإنسان هو في قدرته على ابتداع هذه العدد الكبير من الخرائط، وقدرته على تنويع وظائفها، وتوجهاتها، ومآلاتها، ومع ذلك لم يستطع هذا الإنسان نفسه، أن يصل إلى غايات كبيرة في تحقيق ما يصبو إليه، فلا يزال ينقصه الشيء الكثير، لم تستطع هذه الخرائط كلها أن ترسو به إلى بر الأمان، ويقتنع أن ما وصل إليه هو الغاية، فهل أشكل عليه تعدد الخرائط إلى الحد الذي لم يستطع أن ينجز كل ما يريده؟ أم أن الحياة في مفهومها الكبير تتسع لخرائط كثيرة ومتنوعة، وفي المقابل حلم الإنسان هو الآخر يحتاج إلى كثير من الخرائط النوعية لكي يواكب أحلامه وتطلعاته، ولا يقف عند حد معين، هذه كلها أسئلة مشروعة، وتظل الإجابة عنها هي الأخرى تحتاج إلى «خارطة طريق» حيث لن يتم تحقيق ما نصبو إليه بطريقة عشوائية غير منظمة، وهذا التنظيم يعود بنا مجددًا إلى شيء من مفاهيم هذه الخارطة، بصورة مباشرة لمعنى الخارطة، أو بصورة غير مباشرة مؤداها التنظيم، والتخطيط، واحتساب الأمور خطوة بخطوة، بعيدا عن الارتجالية والعشوائية، والانتصار إلى الرأي الأوحد الذي يتنافى مع مفهوم الخارطة بتقاطعاتها المختلفة؛ من الأفكار والرؤى، والاحتمالات، والتوقعات.