الإسلام المبكر من حوليّات الرّاهب القرطمينيّ
تعتبر حوليّات الرّاهب القرطمينيّ [ق 9م] من الحوليّات السّريانيّة القديمة الّتي أرخت للإسلام المبكر في فترة مبكرة جدّا، ويرى الباحث العمانيّ في الإسلام المبكر قيس البلوشيّ أنّ "دراسة الإسلام المبكر في الرّوايات السّريانيّة حاجة مهمّة؛ لأنّ السّريان من أكثر الأمم حينها كتابة وتوثيقا، واللّغة السّريانيّة هي لغة العلم والمعرفة في تلك الفترة، ومن أهم معارفهم الحوليّات السّريانيّة، وهي شبيهة بالمذكرات؛ لأنّها تكتب الحدث وفق التّقويم السّلوقيّ" أي نسبة إلى الإمبراطوريّة السّلوقيّة في العصر الهلنستيّ، والعديد من الكنائس الأرثذوكسيّة ومنها حتّى السّريانيّة – كهذه الحوليّات - تستخدم التّقويم اليونانيّ أو اليوليانيّ – نسبة إلى يوليو قيصر -، حتّى تطوّر اليوم إلى التّقويم الغريغوريّ، الّذي نسميه بالتقويم الميلاديّ، فالسّريان يبدأون حوليّاتهم بالسّنة ثمّ ذكر الحدث الّذي وقع فيها، وهي طريقة سار عليها العديد من المؤرخين المسلمين أيضا في حوليّاتهم التّأريخيّة.
وهناك من المؤرخين السّريان الّذين سبقوا الرّاهب القرطمينيّ، وأرخوا للإسلام المبكر، مثل القسّ توماس أو توما القسّيس [ق 7م]، وهو معاصر للفتوحات الإسلاميّة، ومؤرخ الرّها يعقوب الرّهاويّ [ت 708م] من أشهر المؤرخين السّريان، بجانب حوليّة زيقونين في القرن السّابع الميلاديّ، وحوليّات خوزستان في القرن السّابع الميلاديّ أيضا.
وبطبيعة الحال ورد الإسلام المبكر في المصادر البيزنطيّة والأرمينيّة والقبطيّة واليهوديّة وغيرها، وتأتي أهميّتها في أربعة إشكالات تدرس اليوم، أولها هل يوجد شخصيّة تأريخيّة اسمها محمّد، أم تمّ اختراع ذلك لاحقا، والثّاني كيف نقرأ النّبيّ محمّد تأريخيّا بعيدا عن الجوانب اللّاهوتيّة، وينطبق مصاديق ذلك على حياته وسيرته وغزواته، ثمّ يتوسع إلى الإسلام المبكر في عهد الخلفاء والفتوحات، إلى الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة، والثّالث موقع الإسلام المبكر هل كان في مكّة والحجاز أم في موقع آخر، والرّابع تأثر المؤرخين المسلمين الّذي كتبوا تأريخهم وحوليّاتهم بالحوليّات المسيحيّة واليهوديّة، خاصّة فيما يتعلّق بالفتوحات، لكون بعضها شهود عيان، والعكس صحيح أيضا، مع مدى التّقابس في ذلك.
وتأتي أهميّة هذه المصادر لتجيب عن العديد من الأسئلة، بجانب تؤكد الحقائق الإسلاميّة أمام العديد من المشككين التّأريخيين في ذلك، مع معرفة ما يقوله الآخر، ونظرته إلى الإسلام المبكر، بجانب ما أشرنا إليه في قضيّة التّقابس والتّأثير، فمثلا ما طرحه الكاتب الكنديّ دان جيبسون في كتابه "القبلة الإسلاميّة المبكرة" من خلال مسحهه للمساجد الّتي بنيت بين القرن الأول الهجريّ [622م] وحتّى 263 هـ / 876 م، إذ يخلص أنّ المساجد في القرن الأول الهجريّ تتجه نحو البتراء عاصمة الأنباط في الأردن اليوم، وبدأ الاتّجاه إلى مكّة في القرن الثّاني الهجريّ، ومن ابتدع الاتّجاه إلى مكّة هو عبد الله ابن الزّبير [ت 73هـ]، والنّتيجة كما تلخص صفحة دراسات وأبحاث إسلاميّة معاصرة رأي دان جيبسون "أنّ الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - تلقى الوحي في البتراء، وأنّ قريش ربما كانوا سكان قرية اسمها خميمة تبعد 27 ميلا عن البتراء، وأنّ كلّ أحداث فجر الإسلام كانت في البتراء وليس في مكّة".
أمام هذا سنجد هذه الحوليّات تبطل هذه الرّؤية منذ فترة مبكرة جدّا، ولم تكتب تحت ضغط الزّبيريين أو الأمويين أو العباسيين، كما كانت خارج الخطّ اللّاهوتيّ الإسلاميّ، فيذكر المترجم السّريانيّ المعاصر بنيامين حدّاد عن بعض المصادر السّريانيّة أنّه في "السّنة 993ي (622م) السّنة الأولى للهجرة، فيها ابتدى ملك العرب [أي محمّد]، الجمعة 16 تمّوز من التّأريخ المذكور فيها هاجر محمّد عبد الله نبي المسلمين ، وأول ملوكهم، إلى مدينة يثرب، وملكها الاثنين الثّامن من شهر ربيع الأول، يوم الثّلاثاء الخامس من تمّوز 635ي (624م) خرج النّبيّ محمّد لمحاربة بني قريش في موضع بدر، وانتصر محمّد، وكان عدد أصحابه 312 رجلا".
وتثبت حوليّات الرّاهب القرطمينيّ شخصيّة النّبيّ محمّد – عليه الصلاة والسّلام -، إذ يقول: "وفي سنة 923م يونانيّة [611م] ظهر محمّد كأول ملك للعرب، وذبح وقدّم الضّحيّة الأولى، وأطعم العرب على غير عوائدهم، ومنذ ذلك الحين ابتدأ حساب السّنين لديهم".
وإذا جئنا إلى حوليّات الرّاهب القرطمينيّ لمنصور بن مرزوق الباسبرينيّ (ق 9م)ّ، والّتي عثر عليها البرطريرك أفرام برصوم بطريرك أنطاكية للكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة [ت 1957م] "في خزانة للكتب تابعة للكنيسة السّريانيّة الأنطاكيّة في قرية (بسبرينا) في منطقة طور عبدين" عام 1911م، والمخطوط "يعود إلى القرن التّاسع الميلاديّ"، وقد ترجم بنيامين حدّاد المخطوط إلى العربيّة، ونشره المركز الأكاديميّ للأبحاث في العراق.
تبدأ هذه الحوليّات بسنة ثلاثمائة وثمانيّة يونانيّة وفيها "تجسّد المسيح، وولد في سنة ثلاثمائة وتسعة (ــــــــــ2م)، وصلب في سنة ثلاثمائة و.........."، وتننهي بسنة 1130 يونانيّة (819م) وفيها "رسم مار ديونيسيوس بطريركا، وهو من دير قنسرين، وذلك في مدينة قالينيقوس ...".
وبالنّسبة إلى الإسلام المبكر فتبدأ الحوليّات من سنة 923م يونانيّة [611م] بظهور محمّد كأول ملك للعرب، ثمّ تؤرخ لوفاته عام 942 يونانيّة [631م]، ولا تشير إلى شيئ من حياته أو غزواته، وإنّما تدخل في مرحلة الخلفاء الرّاشدين من بعده، "وملك بعده أبو بكر ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وفي سنة 954م يونانيّة [634م] مات أبو بكر، ومللك بعده عمر بن الخطّاب إحدى عشر سنة ... وفي السّنة ذاتها دخل العرب سوريا واحتلوا دمشق، وفي سنة 947م يونانيّة [636م] نشبت حرب بين الرّوم والعرب على نهر اليرموك، واندحر الرّوم اندحارا كليّا، واحتل عمر جميع مدن بين النّهرين، وأول رئيس منهم دخل الرّها كان اسمه أبو بادر، وهو الّذي دارا وآمد (ديار بكر) وتالا ورأس العين أيضا ..... وفي سنة 954م يونانيّة [644م] قتل عمر الملك وهو يصلّي من قبل عبد هنديّ كان مملوكا لرجل قرشيّ، وخلفه عثمان بن عفّان، وحكم إحدى عشر سنة ونصف السّنة ... وفي سنة 967م يونانيّة [656م] قتل عثمان، وظلّ العرب بدون ملك ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وكان يتولى أمر العرب في الغرب معاوية بن أبي سفيان، وفي الشّرق كان يتولى أمرهم عليّ بن أخطب" أي عليّ بن أبي طالب.
ثمّ بدأت الحوليات الحديث عن الدّولة الأمويّة من سنة 971م يونانيّة [660م]، وفيها "قتل عليّ، وملك معاوية عشرين سنة، وعقد صلحا مع الرّوم، وأوفد إلى بلادهم القائد عبد الرّحمن الّذي مكث هناك سنتين" وهذا مع تسلل من جاء بعده مع ذكر الأعوام والمدّة، ابتداء من ابن معاوية يزيد، ثمّ مروان، ولم يذكر معاوية بن يزيد لأنّ خلافته كانت من أربعين يوما إلى ثلاثة أشهر، ثمّ ابن مروان عبد الملك، ثمّ بعده ابنه وليد ووصفه بقوله: "وكان رجلا داهية، فاق من سبقه في الاضطهاد، وجمع الضّرائب، ومارس التّضييق على النّاس، وقطع دابر اللّصوص وقطّاع الطّرق، وبنى مدينة وسماها عين كارا"، ثمّ أخوه سليمان، ثمّ ابن عمّه عمر بن عبد العزيز بن مروان، ووصفه "وكان رجلا صالحا، وملكا رحوما أكثر من كلّ الملوك الّذين سبقوه"، ثمّ بعده يزيد [بن عتبة] بن عبد الملك، ثمّ بعده أخوه هشام بن عبد الملك، ووصفه "فاق أسلافه في إعمار البلاد، والاهتمام بالزّراعة وتربية الحيوانات، خلال فترة حكمه، وقام بشق ناظم من الفرات لسقي الأغراس والزّروع الّتي زرعت على جانبيه"، ثمّ بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد، ووصفه "كان فارسا باسلا، من هواة الصّيد والقنص، محبّا للخمرة ولمجالس اللّهو والطّرب"، ثمّ بعده مروان بن محمّد، ولم يذكر يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وذلك لأنّ الأول لم يدم حكمه أكثر من ستة أشهر على ضعف، والثّاني لم يحكم عدا دمشق، ووصف مروان "وكان هذا رجلا صارما قاسيا على العرب، وقد علّق وقتل منهم كثيرين في مدن سوريا".
ثمّ تدخل الحوليات في الدّولة العبّاسيّة مبتدأة بعبد الله بن محمّد، ووصفه بأنّه "أمر بتهديم أسوار المدن في سوريا"، ومن بعده أخوه عبد الله [الثّاني] بن محمّد [أبو جعفر المنصور]، ووصفه "في بداية حكمه قامت حرب طاحنة بين العرب والفرس، وانتشرت الفتنة والفاقة في سوريا، وأذاق هذا الملك أبناء الشّعب الأهوال والشّدائد، وفاق بقسوته جميع من سبقه من الملوك، فقد ضاعف الضّرائب"، ثمّ بعده ابنه المهديّ، ومن بعده ابنه موسى (الهادي)، ثمّ أخوه هارون (الرّشيد)، ثمّ ابنه محمّد (الأمين)، ثمّ أخوه عبد الله المأمون، "وظلّت بلاد سوريا كلّها بلا ملك فترة خمس عشرة سنة".
ومن الأمور المهمّة الّتي أرختها الحوليّات عن الدّولة الأمويّة القابلة للنّقد والمقارنة مع التّراث العربيّ والإسلاميّ أنّ عبد الملك بن مروان "عقد صلحا مع الرّوم دام ثلاثة أعوام، وكان يبعث لهم لدولة الرّوم خراجا قدره ألف دينار، وحصانا عربيّا كلّ يوم"، "وفي سنة 1008م يونانيّة [697م] سكّ العرب النّقود، وكانت خالية من الصّور، ومقتصرة على الكتابة"، "وفي سنة 1015م يونانيّة [704م] دخل عبد الله بن عبد الملك بجيش كبير، وسخّر عمّالا ماهرين، وبنى مصيصا الّتي في بلاد قيليقيا، وفي السّنة ذاتها صدر أمر، وبموجبه قتلت كلّ الخنازير"، وفي عهد وليد بن عبد الملك سنة 1019م يونانيّة [708م] "غرق في نهر الفرات شبيب الحروريّ [شبيب بن يزيد الشّيبانيّ من زعماء الخوارج]، الفارس المعروف، والجنديّ البطل"، "وفي سنة 1021م يونانيّة [710م] غادر محمّد بن مروان الجزيرة، وحلّ محلّه مسلم بن عبد الملك، فجمع هذا عساكره، ودخل بلاد الرّوم، واحتل مدنا منها: طرندا وموسيا وموسسطيا، ودكّ حصونها، وأعمل فيها الخراب، وأخذ كلّ من فيها سبايا، وفي سنة 1022م يونانيّة [711م] أوفد مسلمة حكّاما إلى كلّ أنحاء الجزيرة، فقاموا بمسح الأراضيّ، واحصوا الكروم والأغراس والدّواب والنّاس، وعلّقوا أختاما من الرّصاص في أعناق كلّ النّاس"، "وفي سنة 1027م يونانيّة [716م] جمع سليمان [بن عبد الملك] القوات، فنزلوا البحر، وحلّوا في آسيا، واحتلوا مدينتي ساردي وفوركما، وحصونا أخرى، وقتلوا وساقوا الأهالي سبايا، وأمّا النّصارى هناك فقد أجلو وأخرجوا من هناك في أمان، وفي سنة 1028م يونانيّة [717م] عاد سليمان، فجمع قواته في مرج دابق، وأرسل جيشا كبيرا تحت أمرة القائد عبيدة إلى بلاد الرّوم، فدخلوها، وحلّوا في بلاد تراقيا، ودخل عبيدة بلاد بورغار وغيرها أيضا، فشدّ عليه الملك الرّومانيّ الدّاهية لاون الحصار، حتّى اضطر عسكره إلى أكل لحوم وفضلات دوابهم"، وفي عهد يزيد بن عبد الملك "أمر باستئصال وتحطيم كلّ تماثيل النّحاس والخشب والحجر، وبإتلاف كلّ الرّسوم المعمولة بالألوان"، "وفي سنة 1033م يونانيّة [722م] أرسل ضحاك [ضحاك بن قيس الحروريّ] .... قاموا باكتتاب السّكان كبارا وصغارا حتّى وليد يومه ... كما عمدوا إلى قصّ شعور الكثيريين، وخاصّة الّذين ثبت أنّ ديدنهم الكذب"، "وفي سنة 1037م يونانيّة [726م] غزا مسلمة [بن عبد الملك] بلاد الرّوم، واحتلّ ناوقسريا بنطس وخرّبها، ونهب بلاد سوريا، وفي سنة 1039م يونانيّة [728م] حمل مسلمة على بلاد التّرك، فواجهته قوّة كبيرة ردّت قواته على أعقابها، وقام بجمع عمّال يجيدون نقر الحجر ونجارين، وأعاد الكرة على بلاد التّرك فانتصر، وبنى في بلد التّرك الحصون والمدن الكثيرة".
الملحظ في هذه الحوليّات رغم معاصرتها للدّولة العبّاسيّة إلا أنّها تقتضب الحديث حولها، كما أنّها تعمّق الجانب السّلبيّ خلاف الدّولة الأمويّة، لما تعرّض له المسيحيون – فيما يبدو - من اضطهاد كبير في الدّولة العبّاسيّة مقارنة بالدّولة الأمويّة، كما تشير الحوليّات ذاتها إلى بعض الجوانب السّلبيّة في هذا، كالّذي ما فعله موسى بن مصعب اليهوديّ عندما تولى إمارة الجزيرة والموصل من إبادة واضطهاد للمسيحيين، بيد أنّ الباحث الأمريكيّ سيدني غريفث حاول الإجابة عن سرّ التّناقص في كتابه "المؤسّسات الكنسيّة تحت حكم الإسلام" رابطا بين التّناقص والحروب الصّليبيّة لاحقا، مع الإشارة إلى حالة ذلك في الإسلام المبكر بما فيها الدّولة العبّاسيّة أيضا.