الإرتهان على المعزز الثقافي

12 يونيو 2022
12 يونيو 2022

نبه الرئيس الفرنسي ماكرون في حديثه؛ في مؤتمر للسفراء، عند تناوله السياسة الخارجية لبلاده، لمن كان غافلا؛ عن حقيقة العلاقة بين مكوني الجغرافيا والثقافة، وأثر هذه العلاقة على مجموعة التداعيات التي يستغلها المستعمر عادة، في تقصيه لمجموعة من المثالب التي يمكن الولوج من خلالها للسيطرة على الشعوب، وهو منهج سياسي متأصل فيه لا يزال مفعل على نطاق واسع، وتأتي الوسائل الحديثة اليوم لتعزز من دوره في تكريس السيطرة، واستمرارها لتبقى حقيقة المحتل قائمة على الرغم من وعي الشعوب اليوم أكثر من ذي قبل بفضل مصادر الوعي الكثيرة، واختزال المساحات الجغرافيا على امتداد الكرة الأرضية، بخلاف عما كان عليه الوضع في القديم، عندما كانت الجغرافيا أحد أهم المعوقات التي تعرقل، وتؤجل المشاريع الاستعمارية للمسافات الفاصلة بين مرجعية المحتل "دولته الأم" وبين "دولته الثانية المحتلة" بما في ذلك صعوبات التواصل، والإمدادات "اللوجستية" حيث قال: "نحن نعيش حقبة تمثّل انتهاء الهيمنة الغربية على العالم... يجب إعادة التفكير بالنظام الدولي القائم" وأضاف: "عندما تجد هذه الدول الناشئة ثقافتها الوطنية وتبدأ في الإيمان بها، فإنها ستتخلص تدريجياً من "الثقافة الفلسفية" التي غرستها الهيمنة الغربية فيهم في الماضي.

وهذه بداية نهاية الهيمنة الغربية! لا تكمن نهاية الهيمنة الغربية في التدهور الاقتصادي، ولا في التدهور العسكري، بل في التدهور الثقافي. عندما لم يعد من الممكن تصدير قيمك إلى البلدان الناشئة، فهذه هي بداية تراجعك".

حسب: https://arabic.sputniknews.com/20190827/ ولطالما لعبت الجغرافيا أدوارا محورية في استقطاب مختلف المناخات الطبيعية، والتاريخية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية، حيث استطاعت؛ بما تشكله من أهمية خاصة لـ استراتيجية الموقع، أو استراتيجية ما تضمه من مصادر الثروة المختلفة في باطنها، على وجه الخصوص أن تغازل الغزاة، والباحثين عن الثراء، والهيمنة، والتوسع، لأنه ومن خلال التجربة الإنسانية ليست كل الجغرافيات تمتلك هذه الأرصدة لكي تتوجه إليها البوصلات والطموحات؛ حيث ظل الكثير منها صحاري قاحلة لا تتيح حتى التفكير فيها، فضلا أن تتصيدها العيون، وتكون محل اهتمام الشعوب المستعمرة بشكل خاص، ولأن الجغرافيا، وبما تضمه من محتوى إنساني "شعبي" كبير، ومتشعب: المقاصد والرؤى والطموحات، ليس من اليسير أن تكون صيدا سهلا لأي غاز، ولأي طامع، ولذلك تواجه المستعمر الكثير من التحديات، والصعوبات حتى يبسط سيطرته على واقع جغرافي محدد، خاصة اليوم في ظل انتماءات مؤسسات دولية خصصت لحفظ وصيانة الدول على امتداد الكرة الأرضية، ولذلك تذهب الدول الطامحة في احتلال الشعوب، أو استغلال ضعفها، أو التحايل على مقدرات القوة فيها إلى اللعب على ورقة يبدو أنها لا تزال رابحة، وفق ما هو واضح اليوم في احتلال الشعوب، بعد أن بدء اضمحلال الاحتلال التقليدي الذي سيطر ردحا من الزمن على كثير من دول العالم، حيث تلعب الثقافة اليوم دورا محوريا في هذا الاتجاه، وخاصة في ظل توسع وتعدد وسائل الاتصال، وفي ظل حضور أجيال شابة "غرة" لا تعي ما تقوم به من ممارسات يبدو فيها الاستسلام المطلق لكل ما هو آت من خارج الحدود؛ حيث اللعب على السهل الممتنع في تغريب القناعات، وفي القفز على مجموعة من القيم الضابطة لحركة الحياة لدى المجتمعات؛ وخاصة التقليدية منها؛ وينظر إلى الثقافة هنا بشمولية المحتوى، فالمسألة ليست متوقفة على المعرفة التي تسجل إنجازات ضخمة في الآلة والتقنية، التي هي الأخرى تفرض شروطها الإبداعية، وتحتاج إلى أناس موهوبين في مختلف المجالات، وإلا تظل رهينة السيطرة عليها من قبل مصادرها الأم، وفي المقابل تظل الدول المستوردة لها تحت رحمة الشروط، والالتزامات المطلوبة منها، وهي بالضرورة مكلفة، وتتساوى مع مفاهيم الاحتلال المباشر، فالشروط دائما، يفرضها القوي على الضعيف، وليس العكس.

تمثل الثقافة والجغرافيا أحد أهم عاملين مهمين لتحديد الهوية الحضارية للشعوب على امتداد الأزمان، ولذا قيس عليهما قوة وخفوت الصراع السياسي الممتد منذ ذلك الزمن البعيد، وإلى اليوم، حيث لا تزال الصورة تراوح نفسها وفق هذه الرؤية، وهي رؤية لا يمكن تجاوزها عند مناقشة هذه المسألة، ومن يتتبع مجمل التفاعلات السياسية، يندر أن لا يجد أن هذين العنصرين مغيبين عن زاوية من زوايا هذا الصراع أو ذاك، ولذلك يعمد الفكر السياسي الاستعماري إلى توظيف هذين العنصرين توظيفا يخدم أغراضه، ومراميه، وما يود الوصول إليه من احتلال وسيطرة، واستغلال للثروات، وكم قرأنا عبر ما سجله التاريخ في مفهوم الصراعات كيف يحاول المحتل أن يستحوذ على الجغرافيا من خلال الثقافة، لأن تدجين الأنفس وترويضها لا تخلقه الجغرافيا، وإنما تسهل تحقيقه الثقافة بلا منازع، لأن الثقافة تمثل عنصرا فاعلا في إرباك القناعات، وتوليد قناعات جديدة تخاطب عصرها؛ حيث تعزف على وتر الرغبة لدى أفراد المجتمع، وليس الحاجة، وكما هو معروف فإن الرغبة دائما تكون مرتبطة بطموحات الأجيال الصغيرة، لأن الرغبة تلهث وراء المزيد من التحقق، والمزيد من الطموحات وهذا ما تعزف عليه الثقافة لما تمثله من تنوع وتعدد في مختلف مجالات الحياة، بينما الحاجة ملتزمة بتحقيق ما يذهب إليه فكر الأجيال الكبيرة، التي خبرت الحياة، وتكونت عندها القدرة على ضبط إشباعاتها النفسية، والجسدية، ولذلك ليس من اليسير التأثير على القناعات لدى كبار السن، ويحدث العكس عند الأجيال الصغيرة، وبالتالي متى استطاع المحتل أن يعزف على وتر الثقافة، ويوجد مجموعة من النغمات التي تدغدغ المخيلة لدى الأجيال الصغيرة الطموحة، استطاع في المقابل أن يكسب رهان الاستحقاق في الانتصار على مجموعات المعززات الوجودية كالتاريخ، والقيم، والدين في حياة الشعوب.

ولذلك يلاحظ أن أول ما تطأ قدم المحتل أرضا ما، لا يعمد إلى تجريف الأرض، أو تغيير ملامحها أو نقل المجموعات البشرية من منطقة إلى أخرى، أو تغيير المساحة الجغرافية من مروج ظلال إلى صحاري قاحلة، لقناعته أن ذلك لن يغير شيئا من فكر المغلوب على أمره، ولن يغير قناعته بأهمية أرضه، فهو لا يزال ملتحم بها، ولا يزال يؤمن أن مبدأه ومنتهاه هي الأرض، وإن استطاع المحتل أن يغرب هذا الإنسان عن جغرافيته الأصل إلى جغرافية بديلة ليبعده عن ارتباطه الوثيق بأرضه، وإن حدث ذلك فسيظل أمرا موقوتا، لا تلبث الأجيال أن تعود إلى حيث مرابط آبائها، وأجدادها من قبل، فالأرض تظل مسكونة في نفوسهم، وعقولهم، وقلوبهم، شريطة بقاء المعزز الثقافي أصيلا في نفوسهم، وغير مشوه، يبحث عن هوية، فهذا يظل شرطا أساسيا لا محيد عنه، ومتى استطاع المحتل زعزعة الارتباط الثقافي، واستبداله، أو تشويه صورته، أو تغيير شيئا من ملامحه، فإنه بذلك غرب الجغرافيا ومن فيها.

تحتكم كما هو معروف معززات الثقافة على عنصرين مهمين الأول: تمثله اللغة، والدين، والقيم، والعادات والتقاليد، والفنون، وهو ما ينضم تحت مسمى التراث غير المادي، والثاني: القلاع والحصون، وأشكال المباني، وقد تدخل فيه الملابس، والأدوات الأخرى التي تسهل حركة الناس، وتعاملاتهم فيما بينهم، وهي كثيرة ومتعددة، تتمايز أشكالها، ومسمياتها، وطريقة استخداماتها، وهو ما ينضم تحت مسمى التراث المادي، ووجود كل هذا في مجتمع ما، يعكس هويته الأصيلة، وتحققه وسط شعوب الأرض قاطبة، فالشعوب لن تستطيع أن تنحاز باعتباراتها الـ "شعوبية" فقط إذا فقدت الكثير من معززات هويتها، وانتماءاتها، ولذلك عندما استبدلت بعض الشعوب جغرافية "بديلة" لظروف سياسية معروفة، ظلت حاضنة لهويتها بما تعكس هذه الأدوات كلها، ولذلك ظلت المنازل ما بين جدرانها الأربعة أوطان بديلة للوطن الأم، وظل الصراع الوجداني قائما في نفوس الناس، بين الاستسلام للوطن البديل بما يمليه عليهم معززات الحياة، وبين الانسلاخ النهائي عن الوطن الأم، حيث ظلت الثقافة هي آخر ورقة رابحة في مشروع يمكن أن يبقي الوطن الأم داخل نفوس هؤلاء الناس.