الإبـادة بين الرّصـاص والتّـجـويع
خطر الاجتياح البريّ لرفح، في جنوب قطاع غـزّة، لا يزال حتّى إشعارٍ آخر -خطرًا في دائرة الاحتمال وليس أمرًا واقـعًا بعد. التّهـويلُ منه والتّهـديدُ به، من قبل جيش الاحتلال وقيادته، والحديثُ الأمريكيّ المتواتر عنه- ولو من باب التّحذير من مغـبّـته على المدنيّـين النّـازحين -قد لا يكون، في حساب السّياسة والحرب، أكـثر من محاولة للضّغـط النّـفسيّ على «حماس» في مفاوضات التّـبادل قصْـد حمْـلها على التّـنازل عن مطالبها. الأسباب الحاملة على مثـل هـذا التّـقـدير عديدة؛ نكـتفي بالإشارة المقـتضبة إلى ثـلاثةٍ منها:
أوّلها اجتماعُ المصادر الاستخباريّة والعسكريّـة الأمريكـيّة والأوروبـيّة على القـول إنّـه ما من مـؤشّـراتٍ على استعـدادات عسكريّـة، من جهة جيش الاحتلال، لإطلاق الهجوم البريّ من جهة رفـح. تـتطابق هـذه الإفـادة الغربيّـة مع معـلومات عسكريّـة، أفصح عنها ضـبّاط من جيش الاحتلال والمخابرات والشّابـاك لصحـفٍ عبـريّـة عـدّة، تؤكّـد عـدم وجود خطّـة عسكريّـة متوافَـق عليها، حتّى الآن، لاجتياح رفح وعدم جاهـزيّـة الجيش لخوضها كما أفادت صحيفة هارتس (عدد 15 مارس). ويضاف إلى ذلك دعوة بايـدن حكومة الاحتلال إلى إرسال فريق إلى واشنطن لبحث الموضوع.
وثانيها أنّ فتح جبهة رابعة للحرب، بعد جبهة الشّـمال والوسـط وخـان يونس، لا يستقيم إلّا متى كان جـيش الاحتلال قد انـتهى، فعـلًا، من عـمليّـاته في الجبهات الثّـلاث السّابقة، وتأكّـد من أنّـه بسط عليها السّيطـرة فعلًا. والحـال إنّ شيئًا من ذلك «النّـجاح» لم يحـدث؛ إذْ ما بَـرِح جنـودُ الاحتلال وضـبّـاطُـه يسقـطون في مناطـق دخلها جيـشُـه منذ أكـتـوبر، مثـل بيت حانون وبيت لاهيا وأحياء مديـنة غـزّة ومخـيّـماتها في الشّـمال، ومثـل دير البلح في الوسـط وخـان يونس في الجنوب، وما زالت آلياتُـه تـتـعرّض للتّـدمير وتُسْـتَـدْرَج ومَـن فيها إلى الأفخـاخ؛ كما في مـديـنة غـزّة ومُـجَـمّـع الشّـفاء. وما مـن شـكّ في أنّ استمرار استـنـزاف قـواه البشريّة والآليّة في الجبهات الثّلاث تلك إذْ يـدفعـه إلى سحب الكـثيـر من ألويـتـه منها، سيدفعـه -لا محالـة- إلى ضرب الأخماس في الأسداس قبل أن يتّـخـذ قـرارًا حاسمًا بفـتح جبهة رفـح.
أمّـا ثالث الأسبـاب فيكـمن في مـا تـلْـقـاه «عملـيّـة رفـح» من اعتـراضٍ دولـيٍّ أو من مخافـةٍ من المغبّـة. صحيح أنّ الإدارة الأمريكيّـة لم تـعلن، بـتـاتًـا، اعتـراضها على العملـيّـة بل هي وافـقـت عليها، من حيث المـبـدأ، شريطـة أن تـقـترن بخطّـة لإجـلاء المليون وأربـعمائـة ألف مـدنيّ مـن مناطـق القـتال إلى «أماكـن آمنة»، غير أنّ مساحة الاعـتراض عليها شمِـلت العالم كـلَّـه، بما فيه بلـدان الغـرب الأخرى، خاصّـةً بالنّـظر إلى أنّ ضـحايـا هـذه الإبادة الجماعيّـة بلغ، حتّـى الآن، ما يزيد عن المائـة وعشرين ألف شهيـدٍ وجريح ومفـقود، ناهيك بنـزوح ثلاثة أرباع السّـكان من مناطقـهم التي دُمِّـرت تـدميرًا كـليًّا.
قـطعًا هو ليس خطـرًا افـتـراضيًّا أو مستـبـعَـدًا، تـمامًـا، لكـنّـه ليس قـائـمًا الآن وقـد يكـون مـؤجّـلًا إلى حيـن. الخطـر الحـقـيقيّ الواقـع، اليـوم، هـو الذي يتـجـسّـد في سياسة التّـجويـع التي تـنـهـجُـها دولـةُ الاحتلال على أوسـع نطـاقٍ في غـزّة وفي شمالها على نحـوٍ خاصّ. تـستـكمل بهـذه السّياسـة ما بـدأتـه من قـتْـلٍ جمـاعيّ للمـدنـيّـين، ومـن تـدمـيرٍ شامـلٍ لبنى الحياة التّحـتـيّـة، والهـدف واحـد: جـعْـل الحياة إمـكانًا مستـحيـلًا في قـطاع غـزّة، وبالتّـالي، دفْـع أهالـي القطـاع، بـقـوّة القـتل والإبادة الجماعيّـة، إلى الهجـرة القسريّـة منه! تـفعـل ذلك مستـفيـدةً من دعـمٍ عسـكريّ ومـاديّ وسياسـيّ أمريكـيّ يـوميّ، ومن ضـوءٍ أخضر دولـيّ -غـربيّ خاصّـة- بالكاد بـدأ يَـكـتـشِـف الآن، مـتأخّـرًا، أن لا حـدود لشهـوة القـتـل والإفـناء الجماعيّـيـن عند دولـة الاحتلال، وأنّـه يـدفع ثـمن إجازتـه عـدوانَـها انـتـفاضةً عارمـةً في شارعـه، واحتـمالًا متـزايـدًا لانـقـلاب توازنـات قـواهُ التّـمثيـليّـة والانـتـخابيّـة.
تـشـدِّد دولـةُ الاحتـلال إجراءات التّـجويع والحصار في شمال القطـاع خاصّـةً معاقَـبَـةً منها لأهـل غـزّة في الشّـمال الذين بقي أزيـدُ من نصـفهـم، في محافـظة غـزّة، رافضيـن النّـزوح إلى ديـر البلح في الوسـط أو إلى خان يونس في الجنوب. لقد أفسد عليها ذلك التّـمسُّـكُ الـفلسطيـنيّ بالبـقاء في شمـال القـطاع مخـطَّـطَها لتهـجيـر الشّـعب جـنوبًا، ليس مـن أجـل التّـفـرُّغ لإنـهاء مهـمّـتها بالقضـاء على البنـيـة العسكـريّـة الفـلسطينيّـة هناك -مثـلما ادّعـت- بل من أجـل إفـراغ مـدن الشّـمال وبـلداته ومخيّـماتـه من أهـلها، وإعادة إحياء مشاريـع الاستيـطان التي تَـرَك نـتانياهـو كـلاًّ من بـن غْـفـير وسموتـريتـش يُـفـصحـان عن فـكـرتها جهْـرًا؛ فضـلًا عن قـضْـم مزيـد من الأراضي شرق القطاع وشمـالَ شمالِـه من أجـل إنـتـاج حـزامٍ أمـنيّ لحمايـة مستعـمرات غـلاف غـزّة.
كان مـتـوقَّـعًا، تـمـامًا، أن تـلـجأ دولـة الاحتـلال إلى عـزل شمـال القـطاع عن الوسـط والجنـوب وتـجويـعِـه، خاصّـة بعد أن تَـكَـشَّـف لها أمْـران اثـنـان: تـمسُّـك النّـاس بالبـقـاء وعـودة المواجـهات القـتـاليّـة إلى مـدن الشّـمال ومخـيّـماتها. تـوسّـلـتْ سـلاح الجـوع والتّـجـويع لأنّـه كـلُّ ما تـبقّـى لها من أدواتٍ في سياسة الإخـضـاع بعد فـشـل وسائلها الأخرى. وفي السّـياق هـذا أتـت حربُـها السّياسيّـة والإعـلاميّـة على الأونـروا؛ إذْ هي تَـغَـيّـتْ من ذلك قـطْـع آخـر شـريان يـمـدّ أهل القطـاع بالحياة للوصول بالـفلسطيـنيّـين إلى أحـدِ المصيريْـن الأَسـوديْـن: المـوت أو المزيـد من النّـزوح الذي ينـتهي إلى لجـوءٍ خارج القطاع. وحين كُسِـرَ بـعـض قـليل من حصارها الغـذائـيّ الخانـق عن شمـال القطـاع، من طريق إلقـاء المساعـدات من الجـوّ، لم تـتـحرّج في أن تـتـرصّـد جحافل المـدنيّـيـن المنـتظرين في «دوار الكويت» في غـزّة، فـتُـجهـز بالرّصاص على المئـات منهم من دون أن يـرفّ لها جـفْـن!
كيف تستطيع دولـةُ الاحتلال أن تُـقْـنع جمهـورَهـا بأنّ «إنجـازاتـها العسكـريّـة» في الحـرب تصل إلى حـدّ قـتْـل ما يـزيـد عن اثـنيـن وثـلاثيـن ألـفًا وإصابـة ما يزيـد على خمسـةٍ وسبعيـن ألـفًا من المـدنيّـيـن؛ وتـدميـر كامـل القطاع: مساكـنَ ومستـشـفيـاتٍ ومدارسَ ومطـاحنَ وبـنًـى تـحـتـيّـة؛ وحَـمْـلِ ثـلاثة أربـاع السّـكان على النّـزوح خارج ديارهم والعيش في العـراء؛ وإنـتاج أضخـم مجاعـةٍ جماعيّـة في العصـر الحديث؟ وكيـف لهـذا الجمهـور أن يقـتـنـع بأنّ دولتـه تـنـتصـر بهـذا الذي تفـعلـه؟
نعم، إنّ التّـجويع سـلاح الضّـعـفـاء: يلجـؤون إليه حين يعجـزون عن الانـتصار عسكـريًّا. مع ذلك، علينا أن نعـترف -ونحن نجيب مَـن يتساءلـون عمّـا إذا كانت دولة الاحتلال قـد ارتكبـت حـقًّا إبادة جماعيّـة- بأنّ التّـجويع الشّـامـل هـو الدّرجة العليا في مـمارسة الإبادة الجماعيّة.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب