الأنسنة في العلمويّة اليهوديّة المعاصرة: رؤية يعقوب ملكين
ارتبط خطّ بني إسرائيل قديما بثنائيتي السّامريين واليهود، ثمّ ارتبط اليهود قبل ميلاد المسيح وبعده بثنائيتي الصّدوقيين والفريسيين، وفي الحضارة الإسلاميّة ارتبطوا بثنائيتي الرّبانيين والقرائيين، واليوم في ضوء الحضارة الغربيّة يرتبطون بثنائيتي الأرثذوكس والعلمويّين، والخطّ الأرثذوكسي [الحاخامانيين – الحاسيديم – الحريديم] امتداد لخط الرّبانيين، والّذي هو امتداد لخط الفريسيين، واليهود القراءون يقتربون من الصّدوقيين خصوصا من جهة الإيمان بالأسفار الخمسة فقط، بينما [الإصلاحيون – العقلانيون - العلمويّون] فهي تَمثُل جديدا في قراءة النّص الدّيني من حيث القيم الكبرى، والظّرفيّة، والأنسنة، بين من يرى مصدريّة النّص اللّاهوتي التّوراتي لكن يقرأ وفق الظّرفيّة الزّمكانيّة كما عند اليهود الإصلاحيين، وبين من يرى النّص اللّاهوتي التّوراتي ثقافة غير ملزمة، محكوم بالأنسنة والقيم الكبرى كما عند العلمويّين، في حين يقترب العقلانيون من العلمويّين، لكنهم لا يعتبرون النّص اللّاهوتي التّوراتي ثقافة استقلالا؛ لكنّهم أيضا يرفضون القراءة الحرفيّة له، وإنّما يقرأ حسب ثقافة اليوم الّذي نعيشه.
لهذا يحاول الباحث اليهودي المعاصر يعقوب ملكين، أن يبحث في كتابه «علمنة اليهوديّة»، والّذي ترجمه أحمد كامل راوي، ونشرته رؤية للنّشر والتّوزيع أن يبحث في اليهوديّة العلمويّة، في تشكلها الثّقافي والإنسوي، وأثر ذلك على الفرد والمجتمع والدّولة ذات الهوّيّة اليهوديّة من جهة، والتّعدديّة وفق المنطلق الإنساني من جهة ثانية، وسنركز في هذه المقالة على جانب الأنسنة.
يرى ملكين أنّ اليهوديّة العلمويّة هي [يهوديّة بلا شريعة، تفضّل المبادئ على الفرائض]، أي [تعطي أولويّة للقيم والمبادئ الإنسانيّة على فرائض الشّريعة]، وعليه مرجعيّة الدّولة، وإدارة الشّأن العام عند العلمويّين مرجعيّة إنسانيّة مطلقة، لا علاقة لها بالشّرائع السّابقة، ولا بالنّصوص اللّاهوتيّة، وينطبق الشّأن العام على قضايا الدّستور والتّعليم ووضع المرأة والتّعامل مع المختلف اليهوديّ وغيره.
والأنسنة في العلمويّة اليهوديّة ليس بالمعنى الشّيلري الفرديّ في جملته، وإنّما من خلال «ما يقدّمه من تطور للإنسانيّة، هو الّذي من المحتمل أن يصبح معيارا لتقييم الأمور»، فالأنسنة تنطلق من «قيم إنسانيّة كمقياس رفيع لتقييم وتفضيل القوانين والعادات»، وبها «يتمّ اختيار القيم والقوانين حسب إسهاماتها في إنسانيّة المجتمع، أو معاداة الإنسانيّة به»، فلابدّ من «ضرورة تعليم الإنسانيّة من أجل استيعاب قيم أخلاقيّة تتوافق مع قيم هليل [ت 10م] وكانط [ت 1804م]، مع الإلمام بثقافة الشّعب اليهوديّ وعلاقتها بثقافات الشّعوب في الماضي والحاضر»، وقيم هليل وكانط تتمثل في «لا يفعل النّاس بغيرهم ما يكرهونه لأنفسهم، ولا ينظر النّاس إلى غيرهم أنّهم وسيلة بل غاية، وكلّ مبدأ أخلاقي ينظر إليه أنّه أخلاقي طالما له فاعليّة عالميّة، ولا ينحصر في جماعة واحدة».
والعلمويّ اليهوديّ لا ينظر إلى اليهوديّة كديانة، وإنّما ينظر إليها أنّها ثقافة، هذه النّظرة إلى كونها ثقافة بدأت تتشكل – كما يرى مترجم الكتاب – في القرن الثّامن عشر الميلادي، وأصبح تشكلا علمانيّا في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديين، وحسب رؤية ملكين أنّ العلمويّة ترى «الشّعب اليهوديّ هو شعب اختيار ليس بمفهوم الشّعب المختار، بل بمفهوم شعب يختار كلّ أفراده سبل تطبيق يهوديّتهم وإنسانيّتهم».
ففي التّعليم مثلا يرى العلمويّون أنّ [تعليم اليهوديّة بوصفها ثقافة لا بوصفها ديانة، فيطالب بتعليم إنساني ليهوديّة تتصف بالتّعدديّة، ويعرض ثقافات اليهود عبر العصور، وبدراسة العهد القديم بوصفه أدبا يهوديّا إبداعيّا، وعرض انفتاح اليهود على ثقافات الشّعوب وتأثرهم بها، وتأثير الثّقافة اليهوديّة فيهم].
وارتبط باليهوديّة العلمويّة عدّة جدليات، أولها جدليّة الهوّيّة اليهوديّة، هل هي هوّيّة ثقافيّة أم دينيّة، فيرى العلمويون [أنّ معظم اليهود لا يحافظون على فرائض الدّين، ويقبلون اليهوديّة بصفتها جزءا من التّراث التّاريخي والثّقافي]، فاليهوديّة هوّيّة ثقافيّة لا دينيّة، وبالتّالي هي هوّيّة إنسانيّة وليست لاهوتيّة، فهم «يؤمنون بتطبيق قيم الإنسانيّة في إطار اليهوديّة، وبحريتهم في اختيار سبل تطبيق اليهوديّة بأنفسهم»، أي أنّ الهوّيّة محكومة بالقيم، وهذه «معايير لتقييم وتفضيل كلّ قانون وشريعة»، والإنسان مبتكر للقيم وليست لاهوتيّة.
والجدليّة الثّانية هل التّأريخ اليهودي مرتبط بالله أم مرتبط بالإنسان، فيرى العلمويّون خطّأ التّفسير الأرثذوكسي اليهودي أنّ [التّأريخ اليهودي نتيجة لعلاقة الجماعة اليهوديّة بالإله استنادا إلى عقيدة العهد والاختيار والخلاص]، بل هو تأريخ مرتبط [بالإنسان وبالظّواهر والسّلوكيات].
والجدليّة الثّالثة جدليّة كتاب العهد القديم، فيشترك العلمويّون مع الأرثذوكس على أنّه [الأساس المشترك لثقافة كلّ تيارات اليهود .... ويحتوي الذّاكرة الجماعيّة لليهود]، لكنّه ليس مصدرا لاهوتيّا، بل أقرب إلى [الأدب الكلاسيكي اليهوديّ]، أو عبارة عن [وثائق يهوديّة في إبداعات خياليّة]، أي مرتبط باليهوديّ بصفته إنسانا له تجربته التّأريخيّة والثّقافيّة.
والجدليّة الرّابعة جدليّة الانتماء والاختيار، فيرى العلمويّون أنّ الانتماء مربوط بالقيم الإنسانيّة والدّيمقراطيّة، تحت حقوق المساواة والحريّة للجميع، «بما في ذلك التّحرر من ديانة الشّريعة، ومن كلّ قانون مُعد لفرضها على من لا يؤمن بها»، وأنّ «الدّفاع عن الدّيمقراطيّة [يكون] من خلال النّظام القضائي، ومبدأ فصل السّلطات، ومن خلال قوانين التّأسيس الّتي تحافظ على حقوق الإنسان، وتحدد واجباته»، وأنّ «الدّيمقراطيّة لا تقوم على تغلب الأغلبيّة؛ بل تقوم أيضا على الدّفاع عن حقوق الأقليّة والفرد»، و»في الحكم الدّيمقراطي يجب فصل المؤسّسة الدّينيّة عن مؤسّسات الحكم؛ لأنّ مؤسّسات معظم الدّيانات تتعارض مع الدّيمقراطيّة».
والجدليّة الخامسة جدليّة المجتمع اليهوديّ القومي، حيث يرى العلمويّون أنّ «كلّ مجتمع إنسانيّ هو مجتمع قوميّ»، وبما أنّ القوميّة مرتبطة بالثّقافة، والثّقافة تندمج في الثّقافات الإنسانيّة، عليه لابدّ من القوميّة اليهوديّة أن تنفتح على ثقافات الشّعوب في التّعليم والإعلام والصّحافة والأدب والإبداع واللّغة والفنون.
والجدليّة السّادسة جدليّة الأخلاق ومدى ارتباطها اللّاهوتي بالشّريعة، فيرى العلمويّون أنّ الأخلاق إنسانيّة عامّة، «مختارة بشكل عقلاني حسب مدى إسهاماتها في إنسانيّة الفرد وجوهر حياته»، وهي حاكمة على ما يعارضها ممّا جاء في الشّرائع؛ لأنّ صلاح «الإنسان، وجوهر حياته، هما غاية كلّ القيم والقوانين»، وليس بالضّرورة أن تتوافق مع الأوامر أو الشّرائع اللّاهوتيّة، وأنّ «القيم العقلانيّة شرط لإنسانيّة المجتمع .... ويقاس عليها صالح الإنسان، وماهيّة حياته، ومستوى إنسانيّة، وهي منتهى الفضيلة».
والجدليّة السّابعة جدليّة مصدر السّلطة، فيرى العلمويّون أنّ الإنسان هو مصدر السّلطة وليس النّص اللّاهوتي، والإنسان وحده «خالق القيم والقوانين، وعلى ذلك فلديه قدرة تغييرها، وتحديد صلاحيتها، وطريقة تقنينها»، والدّيمقراطيّة تتعارض مع القول بلاهوتيّة مصدر السّلطة.
والجدليّة الثّامنة جدليّة ظرفيّة النّص الدّيني، فالعلمويّون لا يرون أنّ النّص الدّيني خاضع للظّرفيّة الزّمكانيّة كما يرى العقلانييون والإصلاحيون اليهود؛ بل أنّ الشّعوب هي من ابتدع ذلك حسب الزّمكانيّة، وهم «من ابتدعوا في كلّ الثّقافات ديانات ومجموعة من الطّقوس والشّرائع والفرائض تمثل كلّها عقائد، وأحيانا تتضمن ... مبادئ للسّلوك الاجتماعي والمطالب الأخلاقيّة»، «ومع تجريد المقدّسات من القداسة؛ أصبح من المتعارف عليه أنّ النّاس هم الّذين ابتكروا الله على صورتهم وهيئتهم»، أي بمعنى تضخم اللّاهوت الكلامي والفلسفي اللّاهوتيّ حول الإله أو وجوده.
والجدليّة التّاسعة جدليّة صورة الإله، ففي اليهوديّة نجد رؤية الإله أصبحت متعددة بين الصّورة الكلاسيكيّة المشخصة للإله كما عند الأرثذوكس بغض النّظر عن جدلياتهم الجزئيّة في الشّخصنة اللّاهوتيّة، وهؤلاء يقابلهم بوجود إله غير مشخص، أو إله «لا يهتم بنا، ولا يؤثر في العالم»، وما بين نظرة سبينوزا [ت 1677م] المتمثلة في أنّ «الوجود الإلهيّ والألوهيّة تتجلى في الطّبيعة»، أو نظرة بوبر [ت 1965م] أنّ الرّب رمز للكون، أو نظرة أينشتاين [ت 1955م] المندرجة تحت «المشروعيّة الكونيّة المتزامنة مع العالم الصّغير والكون الكبير»، وهؤلاء يدرجون تحت طائفة الملحدين في الثّقافة اليهوديّة المعاصرة، كما يقابلها فئة اللّاأدريّة الّتي ترى أنّ الإيمان بوجود إله أو عدمه لا يغيّر شيئا في حياة الإنسان، ومع قرب العلمويّين من الفريق الثّاني، أي تأثير الإنسان في صنع صورة الإله وشخصنته، إلا أنّهم يرون حريّة كلّ فرد «طبقا لمعتقداته، وحسب شرائعه وسلوكياته الدّينيّة والثّقافيّة، بشرط ألّا تكون متعارضة مع قوانين الدّولة الدّيمقراطيّة.
والجدليّة العاشرة جدليّة معاداة السّاميّة، فلا يراها العلمويّون أنّها عقاب من الله، «بل عنصريّة سقيمة تستشري بين شعوب كثيرة»، وابتدأت في العصر الهلينستي كردة فعل على الخصوصيّة اليهوديّة، كنظرتهم السّلبيّة إلى التّوحيد ويوم السّبت والختان، وتعمّقت في المسيحيّة بعد تحولها إلى دين رسمي في العصر الهلينستي، وزادت المعاداة بعد الحدث النّازي في أوروبا في العصر الحديث، وهي لا تخرج عن الإطار العنصري، ولا ارتباط فيها لاهوتيّا بالعقاب الإلهي.
وهناك جدليات أخرى كجدليّة لاهوتيّة الدّولة، والهوّيّة من حيث التّعدديّة والخصوصيّة، وغيرها لا يتسع مقام ذكره هنا، ولكن صورة العلمويّين أصبحت واضحة من خلال منطلقها الإنساني من حيث النّظرة الكليّة لفهم ما دون ذلك من هوّيّات دينيّة أو عرقيّة أو قوميّة.
فالعلمويّة اليهوديّة وإن تأخرت عن العلمويّة المسيحيّة، إلا أنّها ساهمت في تشكل رؤية جديدة للإنسان والدّولة والفرد وهوّيّة المجتمع، هذه العلمويّة اقتربت منها الرّؤيّة اللّاهوتيّة في المنطلق الإنساني تحت مظلّة العقلانيّة والإصلاحيّة، وتحت قراءة النّص الدّيني من حيث الأنسنة والعقلنة والتّأريخيّة الظّرفيّة، وهو ما يحدث في قراءات الأديان الأخرى كالإسلام والهندوسيّة وغيرها، لتشكل قراءات أكبر تتجاوز الهوّيّات الدّينيّة إلى فضاء الإنسان.
*ملحوظة: النّص المقتبس بين معكوفتين [] لمترجم ومقدّم الكتاب، وما بين علامتي التّنصيص «» ليعقوب ملكين.