الأنا/الآخـر في تاريخ الإسلام
لكل جماعة إنسانية آخـرها الذي تـدركه بوصفه مقابلا لأناها، وتعبر عن نظرتها إليه من خلال ثقافتها: الرسمية والشعبية، المكتوبة والشفاهية، بمقدار ما تتمثل نفسها -أنواعا مختلفة من التمثـل- من طريق نظرتها تلك إليه؛ إذ هو، دائما، المرآة التي تبصـر فيها الأنا نفسها والميزان الذي تزن فيه ثقلها أو هكذا، على الأقـل، تبدو المسألة لكل أنا جماعية يقابلها ما تعـده آخرها. هذه حقيقة تـلحظ لدى كل جماعة اجتماعية تبلورت شخصيتها في مسار من التطور محدد، وتكون لديها مخزون ثقافي تعـرف به، ولا تشـذ عن ذلك أي منها.
للجماعة العربية، شأن سواها من الجماعات الإنسانية، آخرها الذي يشغل حيزه في ثقافتها. لكن هذا الآخر ما كان، خلال تاريخها المديد، واحدا، بل تعدد وتبدل في أزمنة من التاريخ مختلفة. والغالب على ذينك التعدد والتبدل أنهما يحصلان تبعا للفكرة الرئيس المسيطرة في كل طور من أطوار التطور؛ أعني الفكرة المتصلة بنوع التحدي أو الخطر أو التهديد التي قد تكون الجماعة عرضة له، إبائـنذ، وبمستوى الاستجابة التي تملك التعبير عنها ثقافيا في الآن عينه. هكذا يلبس الآخر، في كل مرة، لبوسا مختلفا عن ذي قبل أو، قـل، متناسبا ونمط الهواجس التي تملك على الجماعة وعيها في لحظة تاريخية بعينها؛ فلقد يكون مبدأ غيريـته الـدين؛ وقد يكون الجنس (= القوم أو الأمة)، وقد يكونان معا؛ وربما كان مبدأ الغيرية ثقافيا...، وهكذا تبعا لنوع المسائل التي ينعقد عليها التـقابل بين جماعات إنسانية مختلفة ربما اشتركت في الموطن الجغرافي- السياسي عينه، أو قد تقوم بينها علاقة ما من علاقات الجوار الجغرافي، أو لعلها قد تكون تبادلت بينها علاقات من التوتـر المتبادل المتولدة من حوادث مثل الغزو والسيطرة والسيادة في مراحل من التاريخ.
في ابتداء إسلامها، كان آخر الجماعة العربية داخليا لا خارجيا؛ أو قـل، للـدقة، داخليا بما هي جماعة عربية، وخارجيا حين صيرورتها جماعة اعتقادية (مسلمة)؛ إنه المـلأ المكي في قريش من حيث هو يرمز إلى الفكر وإلى الاعتقاد الوثني ويمضي، بعيدا، في معالنة فكرة التوحيد عداء جهيرا. قاد التـقاطب العـقدي الحدي هذا بين الفريقين إلى مجابهات مفتوحة ومناجزات مسلحة امتدت لثمانية أعوام إلى أن فرضت الجماعة الاعتقادية الجديدة سلطانها على بلاد الحجاز وجزيرة العرب، فأجبـر الآخر الوثني على أن يفيء إلى أمر دعوة الأنا الجماعية التوحيدية. ليس يعنينا التدقيق في ما إذا كان ذلك الآخر (= الوثني) قد فاء إلى الإيمان التوحيدي حقا أو أكـره على ذلك بالقوة، إنما يعنينا أن الصراع أسفر -بعد فتح مكة- عن تكـون أنا جماعية جديدة وكبرى هي الجماعة الإسلامية، التي هي عينها -حتى تلك اللحظة- أنـا عربية جماعية ملتحمة بدعـوة الإسلام.
كان إلى جانب ذلك الآخر (الوثني) آخـر توحيدي بدا التناقض معه -في البدايات- أقـل حـدة قبل أن ينفجر؛ وقد مثله يهود الجزيرة (يثرب خاصة) ونصاراها (والأولون منهم على وجه التحديد). كان يمكن الجماعة الإسلامية الأولى أن تجد في هذا الآخر حليفها التوحيدي في مواجهة الآخر الوثني (= قريش). لذلك كان يسع قائد الجماعة ونبيها أن يوفـر لأتباعه المؤمنين ملاذا آمنا من غائلة قريش عند النجاشي والنصرانية الحبشية، في مرحلة أولى من صراع الدعوة مع الملأ المكي؛ أو أن يـبرم لهم حلفا مكتوبا (= الصحيفة) مع يهود يثرب والأنصار من أجل الـدفاع الذاتي عن المدينة في وجه من يتهـددها بعد هجرة الجماعة الوليدة إليها. كان المشترك التوحيدي كفيلا بأن يرجئ -ولو إلى حين- المواجهة بين الأنا الإسلامية والآخر اليهودي (والمسيحي استطرادا) في لحظة اشتباك تلك الأنا بالآخر الوثني. وما عتـم أن حصل الصدام الإسلامي- اليهودي بعد أن ساءت العلاقة وفشلت محاولات الاستيعاب الإسلامي، المصطدمة بحاجز الإنكار اليهودي لنبوة الرسول، وإنكار أصالة الوحي المحمدي جملة فالجـهر، بعد ذلك كله، بعداوة «الحليف» المسلم من طريق محالفة عدوه القرشي (معركة الخندق).
من البين أن علاقات الأنا/الآخـر لم تكن لتـبرح، حينها، الحدود الجغرافية الضيـقة لبلاد الحجاز (مكة، المدينة، الطائف) والمدى الأرحب لجزيرة العرب وبالتالي، ما كان عرب الجزيرة ومسلموها -طوال الحقبة النبوية ودولتها- قد دخلوا في علاقة من الغيرية بشعوب أخرى تقع خارج موطنهم (جزيرة العرب). لكن انطلاق موجات الفتوح؛ إلى شمال الجزيرة وشمالها الشرقي والغربي (في بلاد فارس والعراق وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا...)، سيضع العرب والمسلمين أمام أكثر من آخر جديد؛ سرعان ما سيصبح بعضه جزءا من الأنا الإسلامية (الفرس وبنو بويه الديلم وبنو سلجوق والعثمانيون... مثلا)، أو من الأنا العربية- غير المسلمة (أتباع المسيحية اليعقوبية والمسيحية النسطورية، ثم المسيحية واليهودية الأندلسيـتان مثلا)، فيما سيظل بعضه الآخر، آخرا خارجيا لا تشده إلى الأنا الجماعية آصرة صلة، بل ستظل العلاقة به مشوبة بالظن والحذر تتخللها حالا من التحفـز والاشتباك؛ وتلك، مثلا، كانت علاقة الأنا الإسلامية الجماعية ببيزنطة وببيئات المسيحية البيزنطية الخلقيدونية، والمسيحية اللاتينية الزاحفة في ركاب الحملات الصليبية المتعاقبة، ثم المسيحية الكاثوليكية القشتالية في إسپانيا...
هكذا، إذن، ستشرع جدليات الأنا/الآخر في الاعتمال داخل مدارين مختلفين وعلى مسرحين متباعدين: في مدار ومسرح داخليين؛ حيث يأخذ الآخر -الذي هو جزء من الأنا الكيانية (العربية أو الإسلامية)- شكل مقابل عقدي أو ثقافي أو قومي؛ ثم في مدار ومسرح خارجيين أو متتاخمين؛ حيث الآخر -هنا- على الطرف النقيض من الأنا ومن حدودها الكيانية: أي الجغرافية- السياسية. ومن الواضح، من السياق السابق، أن معنى الأنا يتغير بتغير نوع الآخر المقابـل، مثلما يتغير بتغيـر مساحة المنتمين إليها؛ فحين تكون عقدية (إسلامية) مثلا، يخرج العربي المسيحي من دائرة الأنا؛ وحين تكون في اشتباك مع آخـر قومي وعـقدي (بيزنطة مثلا)، يدخل فيها (أي الأنا) المسلم والمسيحي معا؛ وهذه -أيضا- من نسبية المفهومين.