الأمير الحسن بن طلال والواقع العربيّ
بدعوة كريمة من صاحب السُّموّ السّيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثّقافة والرّياضة والشّباب، والمشرف العام على النّادي الثّقافيّ، لأخيه صاحب السّمو الملكيّ الأمير الحسن بن طلال، وذلك لإلقاء محاضرة يوم الخميس الماضي برعاية وزير الإعلام العمانيّ معالي الدّكتور عبدالله الحراصيّ في قاعة المؤتمرات بجامعة السّلطان قابوس، والمحاضرة بعنوان: «الواقع العربيّ في ظلّ التّطوّرات والتّجاذبات الدّوليّة وانعكاساتها على المنطقة: رؤية مستقبليّة».
حضرت المحاضرة لأستمع إلى الأمير الحسن بن طلال المثقف أكثر منه السّياسيّ، خاصّة وأنّه صاحب مشروع ثقافيّ، حيث أسّس المنتدى الإنساني عام 1982م، والّذي عرف لاحقا بمنتدى الشّباب العربيّ، كما أسّس منتدى الفكر العربي عام 1981م، والمعهد الملكي للدّراسات الدّينيّة عام 1994م، ومن المؤسّسين والفاعلين في جامعة آل البيت بالأردن، بجانب مؤلفات له فيما يتعلّق بالقدس وفلسطين والإسلام والمسيحيّة، وله اشتغال كتابي بالسّلام والإنسان والأقليّات الدّينيّة.
كنت أرجو أن يتصدّر المشهد الثّقافيّ المحاضرة، كما كنت أرجو من مقدّم المحاضرة أن يحفر في فكر الرّجل، وما تركه من رؤى ثقافيّة تتعلّق بالمشهد الثّقافيّ، من خلال رؤية الأمير ذاته، إلّا أنّ ما بعد المحاضرة اتّجهت لقضايا سياسيّة، أغلبها كثر الحديث حولها، وذلك لأنّ المشهد العام للأمير الحسن بن طلال كانت صورته السّياسيّة الخارجيّة في العقل الجمعيّ أكثر منه ثقافيّة، ومع ذلك للرّجل – كما أسلفت – رؤى ثقافيّة كان حريّا أن يحفر فيها، خصوصا فيما يتعلّق بفلسفة الإنسان والسّلم والأقليّات وغيرها.
إلّا أنّ المحاضرة أعطت بُعدا ثقافيّا عميقا في جانبه الأفقيّ، فقد جمع الأمير – في نظري – بين الإحياء والإنسان، وهذا هو مدار المحاضرة، وبما أنّ المحاضرة تتحدّث عن الواقع العربيّ فكان حديث الإحياء متعلّقا بالإنسان العربيّ، ومفردات الإنسان العربيّ لا يعني العربيّ فقط من حيث العرق، ولا يعني أيضا المسلم فقط من حيث الدّين، فقد وضح سموّه أنّه عندنا أربعة أعراق مهمّة: العرب والتّرك والفرس والكرد، ومقصد الأمير بهذا على سبيل المؤثر في الواقع حاليا من جهة، ومن جهة أخرى يركز على أهميّة «شمال أفريقيا وجنوب المتوسط لما تملكه من ثروة مهمّة للعالم [إنسانيّة وطبيعيّة] يجب الاهتمام بها، من المغرب وحتّى أواسط تركيا»، وهذه المنطقة تحوي تعدّدا مؤثرا لهذه الأعراق الأربعة، وهذا – كما أسلفت – من حيث التّأثير، لا من حيث التّعدديّة اللّغويّة، وإلّا ففي المنطقة تعدديّة من حيث اللّغات واللّهجات قلّ نظيرها في مكان آخر من العالم، سواء كانت القديمة منها كالعبريّة والشّحريّة والآمازيغيّة والآراميّة والسّريانيّة، أو المهاجرة كالهنديّة والأورديّة والبلوشيّة والسّواحيليّة وغيرها.
وأمّا من حيث الدّين فقد أشار سموّه إلى أنّ بلاد الشّام – مثلا – «تشمل تعدديّة دينيّة متمثلة في المسلمين والمسيحيين واليهود»، وهؤلاء في الحقيقة مؤثرون في المشهد الحضاري والثّقافي منذ القدم علميّا ودينيّا وأدبيّا، كما تضمّ الشّام فاعلين في المشهد الثّقافي كالدّروز والموارنة، إلّا أنّ الأردن ما زالت تحتفظ بالكنيسة الأرثذوكسيّة العربيّة، كانفرادة تحتاج إلى الحفاظ عليها توثيقا وحضورا، فظهور الكنيسة الأرثذوكسيّة القبطيّة أو الأرمنيّة أو السّريانيّة أكثر منه من الكنيسة الأرثذوكسيّة العربيّة أو الحبشيّة، وفي المقابل إذا اتّسعنا للوطن العربيّ نجد تعدديّة أوسع كالصّابئة المندائيّة، واليزيديّة، والكاكائيّة، وغيرها، وقد أشرتُ إلى ذلك في مناسبات مختلفة، وفي كتابي التّعارف.
ويرى سموّه أن هذه المنطقة تحوي تعدديّة طبيعيّة وثقافيّة، ففيها أكبر موانئ الأرض، إلّا أنّه للأسف نحن «نتصارع على مصطلحات الخليج العربيّ أو الفارسيّ، كما نتصارع على خليج العقبة أو خليج عدن، في حين العالم وضع خطوطا عالميّة أخرى كما في الصّين، تجاوزتنا تماما»، ومع الخيرات الّتي يكتنزها باطن الأرض وظاهرها في المنطقة، إلّا أنّها تعاني من «الحرمان المتمثل في الفقر والعوز، ومشاكل المياه والطّاقة»، «فمنطقتنا تعاني من كثرة ابن السّبيل والمهجرين وضحايا الكوارث والحروب حيث تجاوزت ضحاياها خمسين ألفا».
والحرمان مع المشاكل الاجتماعيّة والأمنيّة الّتي يحملها؛ إلّا أنّه بسببه نخسر الإنسان بما يحمله من مواهب وإبداعات، لهذا يرى سموّه أنه لا يمكن المفارقة بين البنيان والإنسان، «فالبنيان والإنسان متلازمان، فكما نهتم بالبنيان علينا أنّ نهتم بالإنسان» لهذا نحن في الوطن العربيّ والعالم عموما بحاجة إلى «فهرس للمعرفة للتّعامل مع الحرمان، لكي نكسب ثقة الجيل الجديد»، «فعلينا إحياء الوطن العربيّ اقتصاديّا، وعلينا أن نهتم بالزّكاة واستثمارها، وعلينا أن نفكر بعودة سكّة الحديد من الشّام إلى الحجاز من جديد، كما علينا أن نعيد رحلات التّبادل الاقتصاديّ بين الخليج وبلاد الشّام»، وفي الوطن العربيّ ككل.
وهذا – كما أسلفت – لأنّ سموّه ينطلق من تلازميّة الإحياء والإنسان، فعلينا أن نتحرّك بلغة الإحياء لا بلغة الأنا والحرب والهدم والخراب، كما أنّه علينا أن نفكر وننطلق وفق قيمة الإنسان، «فالنّهضة لا قيمة لها دون ربطها بالكرامة الإنسانيّة»، «فعلينا أن نعيش ثقافة الإحياء والإنسان».
وحسب ما فهمت من المحاضرة أنّ سموّه يشير إلى الثّالوث الّذي لم نحسن التّعامل معه «المكان والهويّة والهجرة»، فمن حيث المكان فيرى «في منطقتنا من الخيرات ما تطعم الجميع»، لكن «عدم الاستقرار في أيّ جزء من المنطقة يهدّد المنطقة ككل»، فكما علينا أن نتجاوز قضيّة الأنا المتعلّق بالدّولة القِطريّة، علينا أن ندرك أننا كعرب أمّة واحدة، واستقرار أيّ جزء يعني استقرار الجميع، لهذا علينا أيضا – كما يرى سموّه – أن نتعامل بالوسطيّة مع الجميع، «والوسطيّة تكمن في الدّين والفكر من جهة، وفي التّعامل مع الفرقاء من جهة أخرى»، ويرى أنّ عُمان والأردن نموذجان في التّعامل الوسطيّ بين الفرقاء.
كما يجب علينا أن نتجاوز لغة الحرب والثّقة بالغير لا بالذّات، هناك «قانون للحرب، لكن لا يوجد قانون للسّلم»، ثمّ «هل فكرنا بمآلات ما بعد الحرب، أي كيف نتعامل معها من حيث حقوق الإنسان»، مثلا «لا يوجد حقّ للفلسطينيّ بعد الانتداب، هناك حقوق للدّولة اليهوديّة والفلسطينيّة فقط».
وأمّا من حيث الثّقة بالغير لا بالذّات فيتمثل في ثقتنا المطلقة بمجلس الأمن، فيرى أنّ «مجلس الأمن الدّولي حري أن يسمّى مجلس الاضطراب الدّولي»، لهذا «العالم يحتكم إلى قرارات الأمم المتحدة، لكن أين تلك القرارات الّتي تنصفنا عند التّطبيق»، لهذا يلخص واقعنا أنّ «العالم يدور حولنا، لكننا لا ندور بالضّرورة حول العالم».
وأمّا من حيث الهويّة أجده يركز فيها على جانب تعدّد الثّقافات، وقد أشرت إلى التّعدد الدّينيّ واللّغويّ، فيرى أننا «نعيش اليوم مرحلة تشابك الثّقافات أي حوار الثّقافات»، أو ما يسمّى بحوار الحضارات، وبعيدا عن جدليّة التّفريق بين هل الحضارات تتحاور أم الثّقافات وفق قيم الحضارة، إلّا أنّ سموّه يرى أننا «بحاجة إلى برلمان للثّقافات»، بحيث نستفيد من تعدّد الثّقافات عندنا، بل وعلى مستوى العالم، هذا البرلمان يقوم على «الحكمة والبعد عن الشّخصنة».
وبقيت قضيّة الهجرة، وهي مرتبطة بالشّباب، حيث يرى أنّ الأمل كامن في الشّباب، ولكن بدبلوماسيّته يرى أنّ الأمل «في عرب المهجر»، حيث إنّ «الأمل في الشّباب الّذين بالخارج أو يفكرون بعقل الخارج»، وتحليلي لهذا أنّ الخلل يعود في الحريّة وطريقة التّفكير، فضيق مساحة الحريّة في الوطن العربيّ، وتمدد الاستبداد يؤدي إلى غياب طاقات ومواهب وإبداعات، هذا الاستبداد لأسباب سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة ساهمت في هجرة العقل العربيّ، لهذا «الغرب يهتمون بخيرة الخيرة [حتّى من أبنائنا] ونحن لا نهتم بذلك»، ومع هذا الأمل باق فيهم.
وأمّا خلل طريقة التّفكير فقد يعود – في نظري – إلى المعوّقات الّتي تعوق الإفصاح عمّا في الدّاخل، ويصعب البوح به لأسباب متعدّدة، فهذا لا يعني أنّ الّذين بالدّاخل لا يملكون ملكات من بالخارج، لكن هم بحاجة أن يفكروا بعقل الخارج من حيث الانفتاح والقدرة على التّفكير، كما يجب أن تتوفر لهم المساحة الآمنة لآرائهم وتفكيرهم وإبداعهم.
ملحوظة: ما ذكرته آنفا كقراءة شخصيّة لمحاضرة صاحب السّمو الملكيّ الأمير الحسن بن طلال، حيث أقرأها من الخارج حسب فهمي كمحبّ للثّقافة وفق تداعيات الواقع، وليست ترجمة حرفيّة للمحاضرة، وما أشرت إليه بين معكوفتين في المقالة فهو توثيق لكلام الأمير ليس بالضّرورة حرفيّا.