الأمثلة التي لا يُحتذى بها
لطالما كانت لدي حساسية -زادت بطبيعة الحال مع الحرب على غزة- من الثناء على التجربة الأوروبية، سواء السياسية أو الاقتصادية. وعندما يُدلي مثقف مثل أمين معلوف -كما فعل في مقابلته الأخيرة مع فرانس 24- بتصريحات من قبيل: «بدلا من أن يكون المثال الأوروبي قدوة للشرق الأوسط، بات الشرق الأوسط مُشكلة يومية للمجتمعات الأوروبية» أشعر باستفزاز مضاعف؛ لأنها قادمة من رجل يُفترض أنه يفهم السياقات التاريخية، والمناخ العالمي.
القول بأن الشرق الأوسط هو المشكلة ينزع عن أوروبا المسؤولية والتدخل في أزمات الشرق، كما أنه يُركز على النتيجة (المشاكل في الشرق الأوسط)، ويتغاضى عن المسبب (الاستعمار، الغزو المباشر، التدخلات غير المباشرة في المواجهات المسلحة، الهيمنة الاقتصادية والثقافية). كما ينزع عن الدول المستقبلة للمهاجرين مسؤولية إدماجهم، وضمان حياة كريمة لهم.
بُني الاقتصاد الأوروبي المزدهر (شأنه شأن أي دولة أو اقتصاد مزدهر في العالم اليوم) على استغلال البشر سواء من الطبقات الكادحة في ذلك البلد، أو (والشكر للاستعمار) مواطني دول أخرى. والبنيان الشاهق والفخم يرتفع فوق الأجساد الملونة المستضعفة. وتعالوا واقنعوني بالعكس إذا كنتم ترون شيئا لا أراه.
الإشادة بالنظام الاقتصادي الأوروبي (حتى وإن تضمنت الاعتراف أنها إشادة قادمة من عدم توفر بديل آخر)، يتجاهل حقيقة أن الرخاء وانعدام الطبقة الدنيا تقريبا في بلدان مثل ألمانيا (كما يقول صديقي الذي يدرس الاقتصاد)، يعود إلى أن هذه الطبقة تم تصديرها إلى بلدان أخرى: البلدان التي تتوفر فيها العمالة الرخيصة، والمواد الخام، والاهتمام المتدني بظروف العمال وحقوقهم. فرخاء هذه الدول إذا مشروط باستمرارها في استغلال موارد إفريقيا وآسيا.
وبالمثل يتم تصدير المشاكل السياسية، وفتح جبهات مواجهة مع خصومها في بلدان بعيدة على نحو يضمن سلامها، ويُعزز موقفها كقوى مثالية عاشقة للسلام ونابذة للعنف. فالقوى العظمى لا تتواجه بشكل مباشر (أو لم تفعل منذ الحرب العالمية)، بينما تصفي خصوماتها في أراضٍ أخرى.
حتى احتلال فلسطين يُنظر إليه اليوم على أنه تصدير لمشكلة اليهود الذين لم تنجح أوروبا في ضمان حياة لهم في بلدانهم، وضمان تعايشهم بسلام مع بقية الأعراق الأوروبية. مشكلة أصبح على الفلسطينيين والعرب التعامل معها لفشل أوروبا في التعامل معها. اليهود الذين لطالما عاشوا بسلام في فلسطين، العراق، ومصر وغيرها لمئات السنوات قبل الاحتلال.
وبعد هذا كله، يتم استثمار القيم كوسيلة للهيمنة، وكتبريرات لشن الحروب أو دعمها. قضايا مثل إنقاذ نساء أفغانستان، أو تحرير العراق، أو القضاء على الإرهاب في غزة كلها تُصبح ذرائع للرجل الأبيض ليستمر في هيمنته على العالم. تُسمى حركات المقاومة والتحرير منظمات إرهابية، وتُصبح حركات المقاطعة الاقتصادية حركات معاداة للسامية. وترى أوروبا نفسها باعتبارها مُصدّرة للقيم الإنسانية، بدل الاعتراف بحقيقة تصديرها للأزمات.
صحيح أن ثمة أمثلة جيدة في العالم، ولكن يجب أن يُترك لكل شعب حرية اختياره لأدوات النضال التي تتماشى مع وضعه الخاص حتى يصل إلى الرؤى التي يطمح لها. ثمة مشاكل لانهائية في الشرق الأوسط، لكن إصرار على أن الشكل الأوروبي للعايش، النموذج السياسي والاقتصادي الأوروبي هما محل اقتداء هو منظور بحاجة للنقد. أعني أنه لطالما كان محل نقد، ونحن نعود خطوة للوراء عندما نعود لهذه الأفكار التي ليس من شأنها أن تُقربنا لفهم ما يحصل في العالم.
هذا بالطبع هو جانب واحد استحق الرصد من مقابلة أمين معلوف، التي لقيت بالطبع انتقادات أشد لأنها لم تتناسب مع هول ما يحدث على الأرض، ولإنها فُرغت من الانتقاد المباشر للسياسات الفرنسية الداعمة لإسرائيل، السياسات التي تُضيق الخناق على المتضامين مع القضية في فرنسا، وللغتها الحذرة والمهذبة في التعاطي مع الموقف.
أدري أن هذه الفكرة هامشية إزاء ما يحدث. والكتابة عموما أمر لا قيمة له، بينما يجب توجيه أي جهد، كل جهد في إيقاف المجازر اليومية في غزة. مع هذا فالتفكير والتأملات والنقد ضروري سواء في هذه المرحلة، أو ما يتلوها، لو أن المرء يشعر بأنه يعيش في ديستوبيا، وأنه يعيش نهاية العالم، وانهيار ليس للحياة كما يعرفها فحسب، بل للحياة بأسرها. مع هذا ليس باستطاعتنا إلا أن نفكر ونكتب، إلى أن يكون باستطاعتنا أن نفعل شيئا آخر.