الأشهُر الحُرُم.. مبادرة عربية من أجل سلام عالمي
منذ عصور ما قبل الإسلام ارتبط العرب بمواثيق غليظة وكانت لهم مناقب حميدة وأخلاق عظيمة اختصوا بها عن سائر الأمم والشعوب. ومن تلك المناقب والأخلاق تعظيمهم لأشهر معينة من العام، وقد سَمَّوها الأشهر الحُرُم، لأنهم اتفقوا أو توافقوا على تحريم القتال والغزو فيها، وذلك لأسباب اقتصادية ودينية هي تأمين طرق التجارة وكذلك الحج إلى مكة. ولا شك أن التزام العرب بتحريم القتال والغزو في الأشهر الحُرُم كان من مكارم الأخلاق التي بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليتممها، فهو كما قال عن نفسه: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقد أكد الإسلام على تحريم القتال خلال الأشهر الحُرُم، إلا للدفاع عن النفس. يقول القرآن الكريم: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خَلَق السماوات والأرض منها أربعة حُرم". ويقول كذلك: "يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه؟ قل قتالٌ فيه كبير وصدٌ عن سبيل الله وكفر به..الخ". والأشهر الحُرُم أربعة، منها ثلاثة أشهر متتالية، هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وشهر رابع منفصل عنها وهو شهر رجب، ويطلق عليه العرب رجب الفرد، لأنه منفرد أو منفصل عن الأشهر الحُرُم الثلاثة الأخرى، فهو يقع بين شهري جمادى الآخرة وشعبان، ويسمونه أيضا رجب الأصم لأنه شهر يصمت فيه صليل السيوف وصهيل الخيل في ساحات المعارك. إن تحريم العرب منذ عصر ما قبل الإسلام للقتال والغزو في تلك الأشهر، وتأكيد الإسلام على ذلك كما جاء في القرآن الكريم، لهو دليل قاطع على أن للعرب أخلاق عظيمة وقيم سامية، قلّ مثيلها بين الأمم الأخرى، وأن الإسلام دين رحمة، رسالته العدل والسلام بين الناس كافة. ومن كانت تلك سجايا أخلاقه وذلك دينه وعقيدته فعلية واجب التعريف بها وتبليغها إلى الناس، وذلك حتى لا يقع الخيرون في هذا العالم ضحية للحملات التي يقودها الصهاينة ومن يقف معهم أو وراءهم لتشويه صورة العرب والمسلمين والاعتداء على مقدساتهم. وتزيد الحاجة إلى التعريف بمكارم الأخلاق العربية وبقيم الإسلام السمحة في هذا الزمن الذي اتخذ فيه التشويه والاعتداء أشكالا وطرقا بذيئة وقذرة، مثل شتم النبي (ص) واقتحام وتدنيس دور العبادة وحرق المصاحف و تمزيقها.
منذ زمن طويل يمر العالم بأزمات كبيرة تخبو حينا ثم تعود إلى الظهور بقوة، وأكثر تلك الأزمات ناتج عن تدخلات وحروب توجهها أو تشنها مباشرة قوى الاستكبار والاستبداد، حتى لقد صار العالم غابة، حسب اعتراف أحد الرؤساء الغربيين. وبسبب تزايد و تقارب حالات فوران تلك الأزمات والحروب فإن هناك حاجة ماسة إلى مبادرات تساعد الناس على الخروج مما هم فيه من ضيق وخوف إلى وضع يشعرون فيه ولو بفسحة من الأمن والسلام. غير أنه يجب التنويه بداية إلى أننا لا نقصد بالسلام تكريس الظلم الواقع على كثير من الشعوب، ولا الإبقاء على الحالة الراهنة أو الأمر الواقع de facto في العلاقات الدولية، ولكننا نقصد السلام القائم على العدل وفق مبادئ احترام الحقوق وتحقيق المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بين الناس.
ومن الوسائل السياسية والدبلوماسية المتبعة حديثا لتحسين العلاقات بين الدول ما يسمى بأدوات بناء الثقة confidence-building measures، وهي أدوات تتخذ عدة صيغ وأشكال، منها مثلا فتح قنوات تواصل مباشرة أو عقد لقاءات واجتماعات بين الأطراف المتحاربة أو المتخاصمة. ولا يتم في العادة خلال ذلك التواصل أو تلك اللقاءات والاجتماعات بحث قضايا جوهرية، ولكنها تستخدم كمقدمة لتسهيل الدخول في تسويات أو اتفاقيات سلام شاملة في مراحل لاحقة. ولأن للعرب تراث عظيم وهم يحملون رسالة خالدة عنوانهما السلام وغايتهما العدل، فإنه حريُّ بالدول العربية أن تتقدم بمبادرات لبناء الثقة في العلاقات الدولية، وأن تساعد على إحلال السلام وإقامة العدل بين الناس.
ومن الخطوات العملية التي يمكن أن تكون من أدوات بناء الثقة، هي أن تتبنى جامعة الدول العربية مبادرة لإحياء مبدأ الأشهر الحُرُم، أي تحريم القتال ومسبباته خلال أشهر معينة من العام. وليس بالضرورة أن تكون نفس الأشهر التي حددها العرب في عصر ما قبل الإسلام، وإنما يمكن التوافق على أشهر أخرى من العام. ويمكن تقديم ذلك إلى بقية الدول والشعوب كمبادرة عربية مشتركة، بعد أن تتم مناقشتها وإقرارها من قِبل الجامعة العربية على مستوى القمة، وأن يكون الهدف منها أن يدخل العالم في سلم ولو مؤقتا، لتتهيأ الظروف التي تساعد على إخماد الحروب وحل النزاعات، سواء المستعر منها أو تلك المتوقع حدوثها. ومن المهم أن يتم صياغة تلك المبادرة وتقديمها في صورة شاملة وحديثة تناسب العصر، بحيث لا تتضمن فقط تحريم القتال وإنما أيضا منع القيام بما يؤدي إليه، ومنع تمويل الحروب وكذلك إيقاف إرسال السلاح إلى الأطراف المتحاربة خلال الأشهر التي يتم تحديدها كأشهر حُرُم. وفي ذلك الإطار أيضا لابد أن تنص المبادرة على إلزام الصهاينة في فلسطين بإيقاف القتل وانتهاك كرامة الإنسان ومنع الاستيلاء على الأراضي والممتلكات، وذلك على أساس أن تلك الانتهاكات والاعتداءات من مسببات الحرب، بل هي حرب مستمرة طال أمدها ويجب إيقافها. ويجب أن تتضمن المبادر أيضا تعليق الإجراءات التي تعيق انسياب التجارة والاستثمار الدولية، خلال الفترة التي تحددها المبادرة كأشهر حُرُم، وذلك حتى يدخل العالم خلالها كل عام في هدنة وحالة من السلم، تتهيأ الفرص خلالها لإجراء حوارات تسهم في البحث عن حلول للمشاكل والأزمات.
ولنشر تلك المبادرة وحشد التأييد لها على أوسع نطاق، فإنه يجب تقديمها إلى كل المحافل والمنظمات الدولية، بما في ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان والاتحاد البرلماني الدولي وغيرها من المنظمات الدولية ذات العلاقة. كما يجب تقديمها إلى المنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومجموعة الآسيان وإلى مجلس أوروبا ومنظمة الدول الأمريكية، وذلك لتبنيها ودعم تطبيقها. وبعد أن تلقى المبادرة قبولا دوليا واسعا، يتم الانتقال إلى المرحلة التالية وهي صياغتها في صورة اتفاقية دولية توقع عليها الحكومات وتصادق عليها المجالس النيابية لتصبح ملزمة كغيرها من الاتفاقيات الدولية الأخرى، مثل ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية الأخرى المتعلقة بالبيئة والمناخ والتجارة وغيرها.
غير أنه من المهم أولا وقبل تقديم المبادرة إلى المنظمات الدولية والإقليمية الاتفاق بين الدول العربية على جعل تحريم القتال في الأشهر الحُرُم واقعا تعيشه الشعوب العربية، لاسيما في الدول التي تعاني حاليا من الحروب وانعدام الأمن، مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال، ويجب الالتزام بذلك فور الموافقة عليه من قبل الدول العربية. إن مبادرات كهذه يمكن أن تجعل الأخلاق الكريمة والمبادئ العظيمة في التراث العربي والدين الإسلامي نموذجا حاضرا في الحياة، وليس مُجرد قصص ترويها كتب التاريخ أو أمنيات يحلم البعض بالوصول إليها.
* د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية