الأسى موقد الإبداع

18 أغسطس 2024
18 أغسطس 2024

يحتّم علينا الواقع المعاش التسليم بالمشاركة الإجبارية في كثير من الأحداث التي لم تعد خاصة، ولا محلية حتى، بل اتسعت لتصير مشاركة عالمية، خصوصا إذا ما اتصل حدث ما بأطر سياسية أو ثقافية عامة، ومع كل تداعيات الحدث وما يعقبه من تحليلات بداية من الانطباعي الانفعالي العابر مرورا بالتخصصي النفسي السلوكي أو الاجتماعي الإنساني وصولا إلى إمكانية توجيه ذلك الحدث سياسيا أو إنسانيا، تشغلني كثيرا فكرة الأثر النفسي على الفرد خلال وبعد الحدث، تحديدا مع هدوء الصخب الآني للحدث وما يتبقى من آثاره في النفس، ومن متابعات الواقع وتوثيق الأحداث تاريخيا قد يتحول هدوء الإنسان( مركز الحدث) إلى طاقة جبارة تدفعه إلى فعل مفاجئ بعد أمد، هذه الطاقة الجبارة قد تدفع صاحبها إلى الخير المضاعف تأكيدا على أن حدة الانفعال لم تفقده إنسانيته بل عززتها وفجرت مكامن الخير فيها ووجهت شتاتها، كما قد تدفع صاحبها كذلك إلى عنف يفضي إلى قتل النفس هربا من جحيم الصراع النفسي الداخلي الذي يتغلب على صاحبه، أو عنف آخر موجه بشكل عشوائي تجاه الآخر، أو منظم تجاه أشخاص يعتقد أنهم السبب في كل صراعاته.

موضوع المقالة بين شخصيتين تعرض كل منهما لحدث شخصي تحول إلى رد فعل إيجابي رغم إرهاصات الألم وتحديات الصراع النفسي؛ الشخصية الأولى لطالب الطب الفلسطيني عز الدين لولو المعروف باسم «صانع الابتسامة « يوشك الأمر أن يبدو عظيما إذا ما عرفنا أن عز الدين من غزة المستهدفة من الاحتلال الإسرائيلي، وكيف استطاع توزيع البسمة عبر مبادرة لرسم لوحات للمصابين والجرحى في مستشفيات غزة، لكن ما حدث لعز الدين وما فعله بعدها جعل الحدث وعز الدين أعظم؛ فطالب السنة الخامسة فوجئ بخبر استشهاد 20 من أفراد عائلته عبر مكالمة هاتفية في 13/ نوفمبر الماضي ضمنهم والده وشقيقه، كانت والدته المصابة بجروح خطيرة هي الناجية الوحيدة من الحادث، مع استهداف مستشفى الشفاء الذي كان مكان تدريب عز الدين ، كل ذلك أسلمه لا إلى يأس، بل إلى أمل مضاعف لا يخلو من الأسى حين قرر الشروع في مبادرته الثانية بعد مأساته الشخصية، أنشأ عز الدين مؤسسة سمير التي تحمل اسم والده الراحل، لتحقيق أحلام الآباء في رؤية أبنائهم أطباء مؤهلين ناجحين، يقدم برنامج المبادرة الذي أطلق في مايو الماضي، مساعدات مالية لطلاب الطب جمعها عز الدين من التبرعات عبر الإنترنت، وتسمح منظمة «هيومن كونسيرن إنترناشيونال» لمنظمة عز الدين بتقديم ورش عمل تدريبية، للاستجابة لحالات الطوارئ ورعاية المرضى والتقنيات الطبية المتقدمة، كل ذلك تحت التهديد المستمر للاجتياح الإسرائيلي، مبادرة عز الدين التي تساعد زملاءه الفلسطينيين على إنقاذ حياة الناس قائمة على جهد من عُرف ذات يوم بصانع الابتسامة، وهو الذي يرى إن إيجاد سبب للابتسام أصبح تحديا كبيرا له، مع إدراكه أن عائلته لا تزال تحت الأنقاض.

ومع الحدث الرياضي الأبرز عالميا لهذا العام أولمبياد باريس الذي أحرزت فيه إيمان خليف الجزائرية ذهبية الملاكمة في وزن 66 بعدما تغلّبت على الصينية ليو يانغ، لتصبح أول ملاكمة جزائرية وإفريقية تحصد ميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية، إلا أن فوزها هذا لم يأت على جسر من التعب وحسب، بل أتى على جسر من الدموع والغضب وهي تتابع مسلسلا من التنمر الإعلامي عالميا تبنته شخصيات غربية لها ثقلها في التأثير على الجماهير بعد فوز إيمان على منافستها الإيطالية أنجيلا كاريني المنسحبة باكية من المباراة ليستغل الإعلام الغربي دموع كاريني في تأجيج الجماهير الشعبية ضد فوز إيمان متهما إياها واللجنة المنظمة بإدخال رجل إلى لعبة نسائية، الغرب نفسه الذي ينادي بالحرية في كل شيء والذي يدافع تحديدا عن التحول الجنسي وحقوق المثليين وجّه كل سهام التنمر لرياضية عربية أثناء تنافسها عالميا، إيمان ولدت فتاة ونشأت كفتاة وهويتها الحقيقية وفق وثائقها الرسمية كانت وما تزال أنثى، دموع اللاعبة الإيطالية صارت موقدا لإشعال الحرب لا على المتحولين عموما، ولا على ثقافة دعم التحولات البيولوجية الطبيعية وقوانينها الكونية، لكنها وجهت ضد شخص إيمان خليف ستارا لحرب سياسية بين الأحزاب والحكومات وحسابات أخرى شخصية، ورغم اعتذار اللاعبة الإيطالية لاحقا( التي اتضح أنه كانت تجمعها صداقة بإيمان وأن النزال بينهما لم يكن لقاء أول) ورغم تأكيد اللجنة المنظمة على صحة المشاركة إلا أن الإعلام الغربي بقي على تصعيد هجمة التنمر ضد إيمان التي عبّرت باكية عن تأثرها بحملة التشويه ضدها، لكن دموع إيمان ليست كدموع أنجيلا! اللاعبة الجزائرية حوّلت دموعها -لشعورها بالإهانة لمحاولة النيل من أنوثتها- طاقة تدفعها للفوز في جولتين بعدها لتحرز الذهبية وتتفرع بعدها لأبرز المتنمرين عليها خلال رحلة مشاركتها الصعبة التي جعلها هؤلاء شاقة مُحمّلة بكل الأسى والغضب، حيث تقدمت إيمان رسميا بملاحقات قضائية ضد قائمة ضمّت الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ومالك منصة «إكس» إيلون ماسك، والكاتبة البريطانية جي كي رولينغ مؤلفة السلسلة الشهيرة «هاري بوتر»

بين الحدثين وبين الشخصيتين كثير من المختلفات والمشتركات لكن الأسى يجمع بينهما دافعا للإنجاز وهدفا للوصول.

ختاما: قد يبدو مشهد الوصول متشابها للجمهور ومشتبها لكثير ممن يجهلون كواليس الجهد الحقيقية وتفاصيل المعاناة، لكن أولئك الذين اختاروا - طوعا أو كرها- الأصعب سبيلا للوصول وحدهم يدركون أن الأمر ليس سواء، ووحدهم يعلمون أن وصولهم الأجمل وإنجازهم الأغلى صنع على تعب ومشقة لا يدرك أسرارها سواهم، وما دموعهم الممتزجة بالاحتفاء ساعة الوصول إلا مرآة لرحلة الأسى قبل الوصول، فطوبى لكل الفائزين بالوصول المُنتزَع المُستحق.