الأسئلة العاجلة التي ينبغي أن تطرحها كل حكومة خليجية
قرأت دراسات وتقارير متخصصة عن مستقبل ظاهرة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وعلى وجه التحديد نجاحها في عمليات تجنيد الشباب والأطفال، وتعمّقت في مآلات التحولات القهرية على المنظومة الأيديولوجية والقيمية للشعوب، وفتحت استشرافا استراتيجيا حول نشوء ظاهرة العنف والتطرف المؤسسية كردة فعل لهذه التحولات.
واندهشت من اعتبار شباب دولة عربية الأكثر انضمامًا للتنظيمات الإرهابية الآن، ولمّا درست الأسباب، وجدت أن أسبابها الجديدة، قد تشترك معها إن لم يكن كل دول المنطقة فمعظمها على الأقل، والبقية تنتج أسبابها دون وعي بها، ربما لوقوعها في ضغوطات لحظة التحولات وإكراهاتها المالية، وتسليم المرحلة للإدارة المالية الخالصة، لكن أين تأثير المؤسسات المتخصصة والمتفرغة للأمن والاستقرار في هذه الدول؟
هناك تساؤلات لن تحتمل التأخير، وينبغي أن تطرحها كل حكومة في الخليج عاجلا حتى لا يفوت الأوان عليها، فهي في مرحلة من أخطر المراحل التي يتوقع فيها مختلف السيناريوهات، وستشكل مستقبلها خلال العقود المقبلة، مرحلة إنتاج التوترات الجيوسياسية العالمية وانعكاساتها الإقليمية، مرحلة تواجه فيها الشعوب منظومة متكاملة من الضرائب والرسوم ورفع يد الدول عن دعم مجتمعاتها، والاقتصار على دعم الفئات الأكثر تضررا، مرحلة إعادة تنظيم العلاقات الإقليمية لدول المنطقة لخمسين سنة مقبلة.
وهذه الأسئلة هي:
- إلى أي مدى تعتقد كل حكومة خليجية أن شبابها محصنون من التنظيمات الإرهابية الآن؟
- وهل تعتقد أن الاكتفاء ببناء منظومتها الدفاعية والأمنية كافية لمنع التمدد الإرهابي إليها أو تمنع الشباب من الانضمام إليها؟
- هل تعتقد أن إبرام الاتفاقيات العسكرية والأمنية مع الدول الكبرى هو الحل لاستقرارها؟
- هل في حساباتها الدقيقة، أن طبيعة المرحلة الراهنة ولادة لظاهرة الجماعات المسلحة المحلية الصنع، وقد يتقاطع الخارج معها لأجنداته الخاصة؟
التساؤلات بها من الدقة والعمق ما يجعل كل حكومة خليجية تبحث فيها بجدية متناهية، وبموضوعية متجردة عن خياراتها الداخلية، ويكون هاجسها تلكم التساؤلات المخيفة، وتجربة الدولة العربية التي تعتبر بعض التقارير أن شبابها قد أصبحوا الأكثر انضمامًا للتنظيمات الإرهابية، هي تجربة جديرة بإبرازها هنا، كنموذج يبنى عليه الحل غير الأمني والعسكري والتشريعي.
واللافت في الدافعية التي تقف وراء نجاح التنظيمات الإرهابية في تجنيد شباب هذه الدولة، هو العامل المالي، ومنه تتقاطع بقية العوامل الأخرى، كالأيديولوجية والسياسية، ففي هذه الدولة يبلغ نسبة الفقر فيها «15%» والبطالة أكثر من «18%» وكل من يتمكن من الحصول على عمل يومي يبلغ أجره بين «1,5 و2» من الدولارات في اليوم -وفق إحصائية رسمية- وقد اتخذت عملية تأمين لقمة العيش مظاهر متعددة.. تمس المنظومة القيمية والأخلاقية؛ لذلك لا غرابة من أن يصبح شباب هذه الدولة الأكثر انضمامًا للتنظيمات، فتلكم البيئات تنتج العنف والتطرف.
ولو قارنا وضع هذه الدولة العربية بالوضع العام في كل الدول العربية، فماذا سنخرج منها؟ سنرى الكثير منها في وضع مشابه، وأخرى في الطريق إليها، أما إذا ركزنا على الحالة الخليجية، فسنرى أنها تسير على النهج نفسه منذ مدى زمني فوق القصير، حيث يتم القضاء على الطبقة المتوسطة، ويتزامن معها، ولادة سيكولوجيات محبطة ومقهورة من التحولات المالية والاقتصادية والأيديولوجية، وتختلف هذه الدول فيما، فمنها أكثر حدة، وأخرى أقل، وفئة ثالثة، تمرر فيها التحولات بكل هدوء؛ لأن مكونها الديموغرافي لم يمس ماليا، ويؤمن حقوقها الاقتصادية رغم الأزمات، ولن تثور هنا حقوقها السياسية ما دامت حقوقها الاقتصادية مضمونة.
وفي الغالب، فقد أصحبت المعادلة الاجتماعية في الفئتين «الأولى والثانية» صعبة جدا، وهي تتمثل في تعمق الأزمات المعيشية، وتزايد الفقر والبطالة، وحتى لما تحسنت أسعار النفط، ووصلت إلى قرابة المائة دولار للبرميل، فلم تنعكس على المجتمع، فظلت سياسات هذه الدول المالية تمتص من جيوب مواطنيها، وكأن أسعار النفط لا تزال في حدود الثلاثين دولارًا للبرميل.
ولن نبالغ إذا ما قلت إن البيئات الداخلية في الخليج -مع التفاوت- قد أصبحت مهيأة لنجاح عمل التنظيمات الإرهابية من الآن، فهناك تراجع ملموس في المقدرات المالية للمواطنين، ينجم عنها تصاعد مستمر لحالة اليأس الاجتماعية، وانعدام الثقة في الحكومات، والمثير والمدهش جدا، أن أولياء الأمور قد أصبحوا مصدرًا للإحباط واليأس لأبنائهم خاصة من هم في سن «17-26» عاما.
وهذا السن هو المستهدف من قبل التنظيمات الإرهابية، ويعتبر السن المثالي الذي يبحث عنه الإرهاب، وتقدمه السياسات المالية والاقتصادية الخليجية -مع التفاوت- على طبق من ذهب للتنظيمات، وهنا التساؤل الصادم، لو استغلت التنظيمات الإرهابية هذه الظروف إلى أي مدى ستنجح الآن في تجنيدها للشباب والأطفال؟ كما تنتج التحولات الأيديولوجية المتسارعة لبعض هذه الدول العنف والتطرف المؤسسي، هنا تساؤلان ينبغي أن يطرحان عاجلا، هما: إلى أي مدى تستفز هذه التحولات الفاعلين والقوى الدينية؟ وماذا سينجم عنها من تفاعلات سياسية؟
كل من يعتقد أن تداعيات تلكم التحولات بثنائيتها المالية والأيديولوجية لن يكون لها تحولات كنتيجة طبيعية لها، فهو يعبّر عن خلل في التفكير السياسي، مرده الإغراق في الإدارة المالية والاقتصادية للمرحلة الراهنة، لكن ماذا عن المؤسسات المتخصصة والمتفرغة للأمن والاستقرار في كل دولة خليجية، أين دورها في هذه المرحلة؟ ودورها يعوّل عليه وطنيا كثيرا، فهي الضامنة للاستقرار والحامية للمجتمعات من الاختراق، ومن الاستمرار في ارتكاب الحماقات الاستراتيجية، وقد حاولت البحث عن إجابة لهذا التساؤل، فوجدت الآتي:
بعضها يطغى فيها الإفراط السياسي على عقلها الأمني، ويجرده من التأثير على المرحلة الراهنة، وسنجده يعاني كثيرا في معالجة الإشكاليات الكبرى الناجمة عن هذا الإفراط، وأخرى، لا يزال للعقل الأمني صوتا مسموعا، لكنه أقل تأثيرا على المرحلة المالية، وهنا ينبغي أن يكون تدخله محكوما بقناعاته المعلوماتية والاستشرافية، وألا يترك السياسة المالية تدار بمنطق الفكر المالي المجرد خاصة الآن بعد تحسن مالية هذه الدول سواء بارتفاع أسعار النفط أو بفضل تطورات اقتصادية أخرى.
يخطئ من يراهن على الحلول الأمنية أو على الاتفاقيات الأمنية والعسكرية لصناعة أو ديمومة الاستقرار، وفي التاريخ شواهد كثيرة، يمكن الاستفادة منها الآن، فلم يكن الأجنبي في يوم من الأيام مصدرًا للاستقرار، بل العكس، مصدرًا للتوترات، ومفجرها، لأنه يرى أنه في حالة الاستقرار، فلن يحتاج إليه؛ لذلك فهو يقف دائما مع الأنظمة ومع أعدائها في الداخل والخارج، حتى تظل الحاجة إليه دائمة، رأيناه في دعم واحتواء معارضي الأنظمة، ورأيناه في تشجيع الأقليات على أنظمتها، ولا أبالغ إذا ما قلت إنه وراء صناعة التطرف والعنف الممنهج الآن، فكلما يكون هناك مصدر خطر للأنظمة، سيظل الاعتماد على الأجنبي، وفي ذلك استمرارية مصالحه في الدول.
ومن الوعي السياسي بالضرورة الآن، العلم بأن صناعة التوترات والمواجهات داخل كل دولة، و/أو فيما بينها، بأي أشكال سياسية، ستكون من ضمن مخططات وأجندات حلفائها للغايات سالفة الذكر، وسيتخذها الأجنبي أداة ضغط دائمة على حلفائه لابتزازهم المباشر وغير المباشر، فهو لن يكتفي بما يحصل عليه في شراكاته وتحالفاته مع الدول، وإنما سيظهر طمعه كلما تمكنت أي دولة من اكتشاف ثروات جديدة، وهذا من تجارب ودورس التاريخ.
د. عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي