الأديان: التعاليم والتاريخ
حين نعتمد التاريخ - لا النـص - أساسا مرجعيا في رصْد علاقات السياسي بالديني وتحولاتها، في الأديان التوحيدية الثلاثة، سيتيح لنا هذا الانتقال (من النص إلى التاريخ) ملاحظة ظواهر عدة، ما كان يمكننا أن نلْحظها لو حصرْنا درس الظاهرة الدينية في النطاق الضيق للنصوص والتعاليم. وفي جملة ما يسعنا ملاحظته من ظواهر، هنا، ظاهرة الفجوة بين ما تقرره التعاليم وتشرعه في شكل أحكام وما تنْجبه التجربة التاريخية من حقائق وأوضاع سرعان ما يصار إلى خلْع المشروعية الدينية عليها. والفجوة هذه، التي نعني، عادة ما تتخذ شكل تجافٍ بين النصوص والتعاليم من جهة، والمآلات التاريخية، التي تؤول إليها التجربة الدينية، من جهة أخرى. وهي قد تتخذ في بعض الأحيان، شكل اعتماد متبادل بين السياسي والديني؛ حيث السياسي يعتمد الديني لكي يقوى ويفْشو ويتشرْعن، والديني يتوسل السياسي كي يبقى ويستمر ويتسع نطاق المؤمنين به.
هكذا، إذن، تكشف لنا الحاجات المتجددة المتولدة في تاريخ الجماعات الدينية التوحيدية، ومستويات التطور الذهني الذي تشهد عليه تلك الجماعات مع كرور الزمن، وتحديات الوجود والمحيط وما تفرضه عليها من أنماط مختلفة من الفهم والتكييف لنصوص الدين، (= تكشف) كيف أن أحكام التاريخ واستجابات المؤمنين لها، موضوعيا، تدخل جميعها في تكوين كيان الظاهرة الدينية، وتسمها بميسم خاص قد لا توجد له نُوًى أو مبادئ أولى في نصوص الدين وتعاليمه التأسيسية، وإنما يكون مَأْتاه، في مقام أول، مما يطرأ على تاريخ الجماعات الدينية من تحولات في الواقع الاجتماعي، أو في المعرفة، أو فيهما معا.
والغالب على تلك الفجوة السحيقة التي تنتصب - داخل كل دين من أديان التوحيد الثلاثة - بين منظومة النصوص والتعاليم التأسيسية فيه، من جهة، ومجْمل ما تنجزه الخبرة التاريخية الدينية من حقائق جديدة داخل كيان الجماعة المؤمنة، أنها تصبح (= أي الفجوة) مستندا تبْنى عليه كل دعوة إلى الإصلاح الديني، التي يبغي القائلون بها دائما - في الماضي كما اليوم - رد التاريخ إلى التعاليم وإخضاعه لأحكامها، أي رد ما هو تاريخي في الدين إلى ما ينْظر إليه فيه بوصفه المعياري والمرجعي وبالتالي، إسقاط تاريخ الجماعة الاعتقادية من الحسبان ومن تاريخ الدين، والعودة بمعنى الدين إلى مجرد نصوص وتعاليم لا دخْل للمؤمنين فيها! (أليس الدين إيمانا، في المقام الأول؛ ثم أليْس هو فعْل بشري يأتيه الناس بفهمهم وتفاعلهم مع النص؟ كيف، إذن، نخْرج الاعتقاد من نطاق الدين!!).
ذلك، ابتداء، ما شرع أبو حامد الغزالي يحاوله في إحيائه العلوم الدينية، في العهد الكلاسيكي الإسلامي، وإصلاح أمرها بما هو إصلاح للدين، قبل أن يأخذ الإصلاح الديني منحى مختلفا جديدا، بدءا من القرن السادس عشر، مع مارتن لوثر والحركة الپروتستانتية في أوروبا، ثم يشْرع في استلهام نموذجه - بدءا من نهايات القرن التاسع عشر ومطالع العشرين - مع حركة الإصلاحية الإسلامية (محمد عبده ولاحقا، عبد الحميد بن باديس في الجزائر، ومحمد الطاهر بن عاشور في تونس، وعلال الفاسي في المغرب). والحق أن معنى الإصلاح الديني ما برح يطل - حتى اليوم - من وراء معتـقد سـد الفجوة تلك (بين النص والتاريخ)، كما لو أن تجسيرها هو، فعلا، إمكان مـتاح لا يحتاج إلا إلى إرادة دافعة!
لقد ظل الوعي الإسلامي، في الأغلب الأعم منه، ينظر إلى تلك الفجوة بما هي عوار في الدين وانحراف في مسيره، ولم يحصل أن وقع الاعتراف بها بما هي أمر واقع لا يمكن رفْعه، ولا سبيل إلى محْوه من دون محْو حقيقة الدين نفسه، والتسليم - انطلاقا من الاعتراف ذاك - بأن الدين، أي دين، يتطور في التاريخ وينمو بنمو معتنقيه وتزايد أعدادهم ويتأقلم، بالتبعة، مع متغيرات ذلك التاريخ وما يطرأ من تبدلات على الشرط الإنساني للجماعة الاعتقادية. ومعنى هذا أن ما يبدو في شكل فجوة بين النصوص والتعاليم، من جهة، والتجربة التاريخية من جهة ثانية - على صعيد أي جماعة دينية - ليس انحرافا عن الدين لدى الجماعة إياها، ولا مبْعثا على تراجعه في قوته الإلزامية على الشعور والسلوك ومنظومة القيم، بمقدار ما هو تعبير موضوعي عن حركة من التطور طبيعية يخضع لها الدين - أي دين - حين تعتنقه جماعة وتتحول باعتناقه إلى جماعة مؤمنة، فلا يلبث أن ينتقل ذلك الاعتناق بالدين من مجرد نصوص وتعاليم إلى فهـوم وتأويلات، متفاوتة المراتب والمستويات بتفاوت المدارك والملكات - وإلى تكييفات مستمرة مع حاجات الوجود والتطور، أي ينتقل به إلى التاريخ... بما يفرضه هذا على الجميع من أحكام ذات طابع قهْـري.
وعليه، لما كان الدين - في الوقت عينه - نصوصا وجماعات مؤمنة معتنقة تتطور في التاريخ، كانت تراثاتها الفكرية -بالضرورة - جزءا من تراثها الديني، أي من تمثـلاتها للدين وتأويلاتها نصوصه وبالتالي، وجب النظر إليها بحسبانها جزءا من جملة اعتقاداتها الدينية لا تقْبل الانفصال عنها. مع ذلك، نشدد على حاجتنا إلى التمييز في القول الديني بين مستويات لا يجوز الخلْط بينها: بين الإلهي والنبوي والبشري. أما لماذا نـفْرد مساحة مميزة للتأويلات والقراءات الدينية التي تنتجها الجماعة الدينية، وندْرجها ضمن الموروث الديني، فلأن الدين ليس النص أو الخطاب وحده، بل هـو - أيضا - المؤمن الذي يتلقاه ويعتنقه فيخْرج به من حيز النص (= الكتاب) إلى رحاب الواقع. وتعلمنا الهيرمينوطيقا (= التأويليات الحديثة) أن الخطاب - أي خطاب (= الخطاب الديني في حالتنا)- لا يحْمل معناه في ذاته، بل إن معناه شراكة بين النص (= ومرسله) ومتلقيه. وهذا هو السبب في أننا نتأول نصوص الدين (ونصوص التاريخ والأدب والسياسة...) على أنحاء مختلفة نفترق فيها إلى فرق ومذاهب وتيارات ومدارس؛ لأننا لا نجتمع على معنى واحد، لأننا متـلقون متعـددون.