الأدوات السياسية والقانونية لحل الاختلاف داخل مجلس عمان
المبدأ الذي ينبغي تأصيله في الممارسة الديمقراطية في بلادنا، هو أن الاختلاف/الخلاف داخل مجلس عمان بجناحيه الدولة والشورى من المسائل الاعتيادية، بل والصحية للثنائية الديمقراطية التشاركية، وبقدر ما ينبغي التسليم بهما، يكون حلهما - إن وجدا في أي مرحلة - محكوما بوجود أدوات سياسية وقانونية، وتظهر صحية الخلاف/الاختلاف في مرحلتنا الوطنية الجديدة بصورة غير مسبوقة، وستزداد كلما تتعمق الدولة في تطبيق سياساتها المالية وإصلاحاتها المصاحبة لها، خاصة الاجتماعية، فما هي أدوات الحل في التجربة الديمقراطية العمانية ؟ نطرح هذا التساؤل في ضوء الاختلاف الذي ظهر مؤخرا بين مجلسي الدولة والشورى أثناء مناقشاتهما لمشروع قانون الحماية الاجتماعية، وتعديلاته المقدمة من الشورى، وخروجه من أروقتهما إلى التواصل الاجتماعي.
وقبل الإجابة عن التساؤل، ينبغي التوقف عند النظرة الاستشرافية لمستقبل التشاركية الثنائية في ضوء جوهر هذا الاختلاف بين المجلسين الذي ينحصر الآن في قضايا اجتماعية، وبالذات ما يتعلق بمنطقة الأساسيات للمواطنين، ومستقبلا ستتطور هذه الثنائية لكي تكون شاملة على اعتبار أن المجلسين سيكونان الخيارين الوحيدين لإدارة المصالح الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية والفكرية، لذلك سيكون الخلاف/الاختلاف من البديهيات بل ومن جوهر العملية الديمقراطية، الأهم هنا، أن تكون الأدوات القانونية والسياسية حاكمة للاختلاف/الخلاف.
وهذا استشراف واقعي ينبغي التسليم به منذ الآن، وسيكون نتاجا طبيعيا للتحولات الدراماتيكية التي تشهدها البلاد، فكلما تعمقت الحكومة في دورها الجديد، وذهبت بعيدا في إصلاحاتها الشاملة، وعلى وجه الخصوص انفتاح البلاد الاجتماعي والفكري والاستثماري والديموغرافي، فكل ذلك ستظهر تفاعلاته داخل مجلس عمان، وقد تتلون بألوان التداعيات المختلفة، مما قد يؤدي إلى ظهور النخب التي تخرج من صناديق الانتخابات متأثرة بهذه الألوان أو مدعومة منها، وهذا مسألة طبيعية في سياق التطورات المتلاحقة، وبالتالي، يمكن أن تتبلور حالات فكرية وسياسية مستقلة، مما يزيد من أهمية مجلس عمان في إدارة الاختلاف/الخلاف وحسمه ديمقراطيا، والمعول هنا على الأدوات التي ينبغي أن تكون ذكية بمآلات هذا المستقبل.
وتتبلور ملامح هذا المشهد في الجدال وما صاحبه من لغط حول مشروع قانون الحماية الاجتماعية بين فكر يعمل ببراجماتية مالية واقتصادية خالصة، والآخر ببراجماتية اجتماعية خالصة، وهذا يفسر لنا طبيعة الجدال بين المجلسين، وخروجه إلى ساحة التواصل الاجتماعي، وقد أخذ أبعادا وخلفيات عاطفية رغم وجود أدوات قانونية، وأخرى سياسية تحسم مثل هذا الجدال، وهي:
- الأدوات القانونية، وهي تتجلى في إحالة مشروعات القوانين التي تعدها الحكومة إلى مجلس عمان - الدولة والشورى - لإقرارها أو تعديلها ثم رفعها إلى السلطان مباشرة للتصديق عليها وإصدارها، أو إرجاعها للمجلسين، وذلك كله في آجال زمنية محددة سواء في الأمور الاعتيادية للقوانين أو الاستعجالية، وقد نظم القانون كذلك قضايا الاختلاف بين مجلسي الدولة والشورى، فمثلا المادة « 49 » التي تنص:
«تحال مشروعات القوانين من مجلس الوزراء إلى مجلس الشورى الذي يجب عليه البت في المشروع بإقراره أو تعديله خلال ثلاثة أشهر على الأكثر من تاريخ الإحالة إليه، ثم إحالته إلى مجلس الدولة الذي يجب عليه البت فيه بإقراره أو تعديله خلال خمسة وأربعين يوما على الأكثر من تاريخ الإحالة إليه، فإذا اختلف المجلسان بشأن المشروع، يجوز لهما تشكيل لجنة مشتركة لبحث أوجه الاختلاف، وترفع اللجنة تقريرها إلى المجلسين لمناقشته في جلسة مشتركة برئاسة رئيس مجلس الدولة وبدعوة منه، ثم التصويت على المشروع في الجلسة ذاتها، وتصدر القرارات بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين، وفي جميع الأحوال على رئيس مجلس الدولة رفع المشروع إلى السلطان مشفوعا برأي المجلسين».
وهذا يعني أن الاختلاف بين مجلسي الدولة والشورى بشأن مشروع قانون الحماية الاجتماعية تحكمه أدوات قانونية، وهي الآن في الإطار الإجرائي الملزم، ولا مجال هنا لرغبات الفرد أو المؤسسة في الرفض أو التريث أو التأجيل، وستحسم في الإطار الديمقراطي حسب آلية الأغلبية المطلقة التي اعتمدها المشرع العماني لحسم الاختلاف/الخلاف بين المجلسين، وهي التي تحصل على نصف المجموع الأصلي زائد واحد ( أو ثلثي الأصوات ).
ومهما كانت نتيجة الأغلبية المطلقة، فإن الملف كاملا مشفوع بنتيجة التصويت، وبرأي المجلسين يرفع إلى السلطان، وهذا يعني أن موقف مجلس الشورى الذي يمثل الشعب سيكون عاهل البلاد ـ حفظه الله ورعاه ـ مطلعا عليه بصورة مستقلة، أسوة بموقف مجلس الدولة، وهذا في حد ذاته ضمانة أخرى، حيث سيقف عاهل البلاد ـ حفظه الله ـ على المطالب الاجتماعية التي يعبر عنها ممثلوه في مجلس الشورى، وهذا يوضح ما نعنيه عندما أطلقنا على الاختلاف/الخلاف بأنه من المسائل الصحية، ولا ينبغي القلق بشأنها الآن أو مستقبلا، لأنها محكومة بأدوات قانونية ووفق آجال زمنية مقدسة.
- الأداة السياسية، وتتجلى لنا في مشروع قانون الحماية الاجتماعية في وجود إرادة سلطانية في الإسراع بإنجاز نظام الحماية الاجتماعية، وتقف الإرادة السامية مع المواطن في هذا القانون، بدليل رفضها تقييد حق الاستحقاق المالي لكبار السن مثلا رغم محاولات التقييد... الخ. من هنا تكمن الرهانات الوطنية على هذه الأداة السياسية، فقانون الحماية الاجتماعية ورؤاه اهتمام سام ومتابعة رفيعة من لدن جلالته ـ حفظه الله ـ وفق ما أفادني به مصدر رفيع في مجلس الدولة.
ويمثل مشروع قانون الحماية الاجتماعية أهم الضمانات الحمائية للمجتمع في عصر الضرائب والرسوم، وحقبة التحديات الجيوسياسية غير المسبوقة، من هنا ينبثق الاهتمام السامي بسرعة إنجاز هذا القانون، واحتكاما لهذا الاهتمام السامي وكذلك غاية القانون الاجتماعية سالفة الذكر، ينبغي أن يكون هذا القانون متكاملا لمواجهة مختلف التحديات الداخلية والجيوسياسية، وهي تحديات قد أصبحت معلومة، ومواجهتها تكون من خلال تحصين الجبهة الداخلية، والحفاظ على القوة العمانية الناعمة، ومن هنا يأتي الحديث عن أهمية عدم تأجيل منحة الباحثين عن عمل والتأمين الصحي، كما أننا لو أمعنا التفكير في القانون بمواده المتكاملة والشاملة، سنجده يمثل الدور الاجتماعي للحكومة في عصر الضرائب، لدواعي التوازن المعقول بين حقوق المواطن وواجباته في هذا العصر، والتوازن نفسه بين فرض الضرائب والرسوم وحقوق المواطن.
لذلك يخرج قانون الحماية الاجتماعية من وعي التحديث السياسي لدور الحكومة الاجتماعي في حقبة الضرائب، وطبيعة هذا الدور الجديد ينبغي أن يفهم من هذا السياق، أو حمل الفهم السياسي إليه، ومنه - أي الفهم - يرتفع صوت الشمولية والتكاملية لقانون الحماية الاجتماعية حتى لا تكون هناك ثغرات استراتيجية فيه، قد تفقد التوازن بين الواجب الضريبي والحق في الحماية الاجتماعية، وهنا نلاحظ ماهية المتغيرات المعاصرة في منظومتي الحق والواجب، مما يستوجب رفع الوعي السياسي بها في مرحلة المناقشات الديمقراطية لقانون الحماية الاجتماعية.