ازدهار السلام الإيجابي
يعرِّف تقرير (السلام الإيجابي 2022. تحليل العوامل التي تبني السلام وتتنبأ به وتحافظ عليه)، الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (IEP) في مدينة سيدني في أستراليا (السلام الإيجابي) بأنه "المواقف والمؤسسات والهياكل التي تخلق مجتمعات سليمة وتحافظ عليها"، ولهذا فإنه ينبثق ضمن (مفهوم تحويلي)، يحوِّل التركيز بعيدا عن (السلبي) من خلال وصف الظروف اللازمة لازدهار السلام والمجتمع، ولأن له (طبيعة نظامية) -بتعبير التقرير- فإن الاعتناء به لا يُعزِّز السلام وحسب، بل يُسهم في تحقيق الأهداف التنموية وتعظيم نتائجها، وبالتالي تحسين (مستوى الرفاهية)، وارتفاع (مستويات المرونة)، لإنتاج (مجتمعات أكثر انسجاما).
إن (السلام الإيجابي) الذي يحدثنا عنه تقرير (IEP) "يوفر نظرية للتغيير الاجتماعي، ويشرح كيف تتحوَّل المجتمعات وتتطوَّر"، حيث يُوجِد بيئة (مثالية) تُسِهم في ازدهار الإمكانات الإنسانية؛ فالعالم مقبل على تحولات وتغيرات تواجه العديد من التحديات في ظل (تغير المناخ)، و(انخفاض التنوع البيولوجي المستمر)، و(استنزاف المياه العذبة)، و(الاكتظاظ السكاني)، ولهذا فإن (السلام) يقدم نفسه باعتباره (شرطا أساسيا) لبقاء البشرية واستدامة تنميتها. إنه يوفر إطارا لفهم ومعالجة العديد من التحديات المعقَّدة التي يواجهها العالم. إنه "تحويلي من حيث إنه ميسِّر شامل للتقدم، مما يسهِّل الإنتاج على الشركات ورجال الأعمال والعلماء والأفراد، ويفتح لهم آفاق الابتكار، ويدعم للحكومات التنظيم الفاعل" - حسب التقرير.
السلام الذي يخبرنا عنه التقرير يتطلب فهما منهجيا وطريقة توفر مجالات جديدة لإعداد تصورات للتغيير المجتمعي وشرحه، ولهذا فإنه يقوم على مجموعة من الركائز التي تربط القطاعات التنموية كلها، حيث ينطلق من مقولة إن (الكل أكثر من مجرد مجموع مكوناته) -حسب تعبير التقرير- ومن ذلك فإنه يتناقض مع مفهوم (السببية الخطية) التي يعتمد عليها مصطلح (السلام) بشكل عام، والتي تعتمد على صناعة القرارات التقليدية القائمة على (تحديد المشكلة)، و(اتخاذ القرار) وفقا لأسباب تلك المشكلة ومقترحات معالجتها بمعزل عن غيرها من التحديات التي تواجه المجتمعات، فالتفكير (النظمي) الذي يقوم عليه (السلام الإيجابي) يعتمد على إطار شامل ومنهجي مترابط يضمن تحقيق التقدم الاقتصادي الأفضل، والأداء البيئي الأمثل، والسعادة والتنمية الأقوى، والتقدم الاجتماعي الفاعل.
ولهذا فإن (مؤشر السلام الإيجابي (PPI) يعتمد على مقارنة وتتبع العوامل التي تخلق مجتمعات مزدهرة؛ وهي عوامل أساسية لتحليل النُظم المجتمعية تحليلا شاملا، بُغية قياس البلدان ذات المستويات الأعلى في (السلام الإيجابي)؛ وهذه العوامل كما وردت في تقرير المؤشر هي (المرونة)، و(الارتباط باقتصادات قوية ومزدهرة)، و(الحصول على أداء أفضل في التدابير البيئية)، و(مستويات أعلى من الرفاهية والسعادة)، و(رضا أكبر عن مستويات المعيشة)، ولأن (كوفيد 19) كان له تأثير بالغ في (ضعف التحسن في السلام الإيجابي) خلال عامي (2019- 2020) كما يوضح ذلك المؤشر، وذلك بسبب الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن استجابات السياسات للوباء، فإن التقرير يتوقع إمكانات قياس أفضل لتأثيرات كوفيد 19 على النظام الاجتماعي في المستقبل بشكل متكامل مع الأنظمة التنموية الأخرى.
يكشف (مؤشر السلام الإيجابي) نتائج مهمة في (بناء السلام واستدامته)، ولأنه لا توجد حلول سريعة وسهلة لبناء ذلك السلام في المجتمعات، فإن بناء التنمية الاجتماعية واستدامتها يتطلَّب عددا كبيرا من التحسينات على مستوى المجتمع تربطها بالقطاعات المختلفة، إلَّا أن (المرونة) تُعد إحدى أهم تلك الأولويات التي تتيح بيئة تزدهر فيها الإمكانات البشرية بشكل أفضل، فـ"الدول ذات المستويات الأعلى من المرونة أكثر فعالية في حماية سكانها أثناء جائحة كوفيد 19" -حسب التقرير- كما ترتبط المرونة أيضا بـ(مستويات الرضا عن الحياة لدى الأفراد)، إضافة إلى أن وقف الصراعات وبناء وحدة مجتمعية قائمة على التفاهم والثقة يُعزِّز الازدهار المجتمعي وبالتالي الرفاه.
إن السلام الإيجابي (مقياس للمرونة المجتمعية)، ولهذا فإن البلدان التي تتمتع بمستوى عالٍ من (السلام الإيجابي)، تكون "أكثر قدرة على حماية سكانها من الصدمات السلبية" -حسب التقرير- ولهذا فإن تلك المرونة بما تمثله من قدرة قطاعات الدولة على التعاون والمشاركة في العمل والبناء المجتمعي، فإنها تُسهم في تأسيس وعي أكبر لمفاهيم المثالية والأخلاق التي يتمتع بها المجتمع، وهي مرونة تساعد في تحديد الأولويات الوطنية بناء على المعطيات الإحصائية من ناحية والاحتياجات التنموية بشكلها المترابط والمتكامل من ناحية أخرى، فالتعاون والمشاركة بين القطاعات كلها يوفر رؤية متكاملة لتلك الاحتياجات، حيث لا يمكن أن نفكر في الطرق والمواصلات مثلا بعيدا عن الثقافة المجتمعية والأنماط اليومية لحياة الناس، ومجالات أنشطتهم الاقتصادية وهكذا، وبالتالي فإن الرؤية لا بد أن تكون شاملة، وأن التنمية لا يمكن أن تتحقق في هذه القطاعات بعيدا عن بعضها، وإلَّا فإنها ستبقى دوما عاجزة عن تلبية تلك الاحتياجات التنموية للمجتمع؛ ذلك لأن الثقافة المجتمعية أكثر رسوخا واستدامة من أية أنماط حضارية أخرى.
ولأن أولى ركائز (السلام الإيجابي) هي (حكومة تعمل بشكل جيد)، فإن هذا العمل الذي تُقدمه الحكومة يشمل تلك الخدمات (عالية الجودة)، وقدرتها على توليد (الثقة) و(المشاركة)، و(قدرتها على الاستقرار السياسي)، و(دعمها لسيادة القانون)، مما يعني أن هذه الركيزة تقوم عليها باقي الركائز كلها سواء تلك المتعلقة ببيئة الأعمال، أو التوزيع العادل للموارد، أو حقوق الآخرين، والعلاقات مع الجيران، والتدفق الحر للمعلومات، والحفاظ على مستويات عالية من رأس المال البشري، وانخفاض مستويات الفساد. فكلها ركائز تعتمد على قدرة الحكومة على العمل بفاعلية وبمشاركة قطاعات المجتمع المختلفة سواء أكان القطاع الخاص أو المدني أو الأفراد؛ فالحكومة لا يمكن أن تعمل منفردة لبناء مجتمع يتمتع بالسلام، وإنما (المشاركة) هي الأساس في دعم توجهات المجتمع، ولأننا شركاء فنحن بقدر المسؤولية ذاتها، من حيث المساهمة الفاعلة في العمل التنموي من ناحية، و(الإيجابية) من ناحية أخرى.
عليه فإننا يمكن أن ننظر إلى (السلام) باعتباره من القضايا السياسة وحسب، لأنه لا يدعم المرونة و(اللاعنف) وحسب، ولا يعتمد على العلاقات الجيدة مع الآخرين على المستويات المختلفة فقط، بل هو بيئة تربط الأهداف التنموية، وتُعزِّز القدرة على فهم تلك الأهداف وفق عوامل مجتمعية تدعم التقدم في التنمية الاقتصادية والإدماج والبيئة، والرفاه المجتمعي. إنه قدرة تنموية قائمة على تصميم برامج إنمائية قادرة على الصمود، خاصة أن النُظم المؤسسية متطورة ومتغيِّرة، تربط التنمية المجتمعية بالقطاعات التنموية الأخرى، وفق نظام قائم على برامج التنمية البشرية المتأسسة على (تحسين حياة الأسرة).
والحق أن سلطنة عُمان من تلك الدول التي اعتنت بـ(السلام الإيجابي) الذي يعتمد على بناء (الثقة) من ناحية و(المرونة) من ناحية أخرى، وما ورد من ترتيب عالمي في تقرير مؤشر (السلام الإيجابي 2022) يدلنا صراحة على التطور الذي أحرزته عُمان في ركائز المؤشر منذ عام 2009 حتى 2020 -وإن كان متذبذبا- حيث جاءت في المرتبة (55) على مستوى العالم بين (163) دولة. الأمر الذي يكشف الاهتمام المتزايد بمعايير السلام الإيجابي وتعزيز دور الحكومة في دعم مرتكزاته في شتى القطاعات التنموية التي تتأسس على التنمية الاجتماعية، وإيجاد بيئة لازدهار الإمكانات البشرية خاصة لفئة الشباب.
إن عُمان من الدول التي دعمت السلام وطنيا وعالميا، ولهذا فإنها من الناحية التنموية تُقدم أنموذجا حضاريا، يُسهم في توسيع نطاقات المشاركة بين القطاعات والعمل المتكامل، فإن كنَّا نؤمن أهمية دمج القطاعات التنموية ذات العلاقة، فنحن اليوم نتحدث عن أهمية (التعاون) و(المشاركة الفاعلة) بين القطاعات التنموية كلها من أجل تقديم رؤى لا تفصل القطاع الاقتصادي عن الاجتماعي أو الثقافي، أو البيئي، لأنها مجتمعة تخلق مجتمعا قادرا على الصمود، ومتفاعلا مع المتغيرات، وبالتالي مجتمعا إيجابيا.