إيجابية السلام وقوته
يقدم مؤشر السلام العالمي 2021 (قياس السلام في عالم معقد)، الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام في استراليا، تصنيفا لـ (163) دولة وإقليما مستقلا، حيث يحتوي على تحليل شامل لاتجاهات السلام حول العالم، وقيمته الاقتصادية، وكيفية تطوير المجتمعات وتوجيهها نحو السلام. يغطي هذا المؤشر قياس ثلاثة مجالات هي (مستوى الأمن والسلامة المجتمعيين، ومدى الصراع المحلي والدولي المستمر، ومستوى القوة العسكرية)، وذلك من خلال (23) مؤشرا نوعيا وكمّيا.
لا يفاجئنا المؤشر بنتائجه التي تأثرت بشكل كبير بجائحة (كوفيد 19)، حيث انعكست تداعياتها على كافة مناحي الحياة؛ فقد أقرَّ بأن «متوسط مستوى الهدوء العالمي تدهور بنسبة 0.07٪، وهو تاسع تدهور في السِّلم خلال الثلاث عشرة عاما الماضية»، إذ يكشف تزايد التوترات بين الدول والقوى الكبرى والتي يرجعها المؤشر إلى «موجة التوتر وعدم اليقين نتيجة جائحة كوفيد19»، وما ستسببه من تأثيرات طويلة المدى على السلام في العالم.
إضافة إلى نتائج دول العالم ودرجة السلام في كل منها، يستعرض لنا المؤشر تلك الآفاق المستقبلية للسلام وعلاقته بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وصولا إلى ما أطلق عليه (مفتاح بناء السلام) وهو (السلام الإيجابي)؛ أي قدرة الدولة على بناء «المواقف، والمؤسسات والهياكل التي تخلق مؤسسات مسالمة وتدعمها» ـ حسب تعريف المؤشر ـ، بحيث تتفاعل أركان السلام (بشكل منهجي) لتعزيز مواقف المجتمع، ومؤسساته وهياكله التي تدعم التنمية وبناء السلام، وبالتالي تُحدث مستويات عالية من السلام المجتمعي الداخلي الذي يكشف عن مرونة المؤسسات واستجابتها لاحتياجات المجتمع.
وعلى الرغم من التدهور العام في مؤشرات السلام في العالم، والذي زاد من تأثيره جائحة كوفيد19 وتداعياتها على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، إلاَّ أن سلطنة عمان من الدول التي تقدمت بثلاث مراكز عن مركزها في مؤشر 2020، فهي من الدول التي تقع ضمن مناطق الاستقرار، ولعل مواقف عُمان الداخلية والخارجية الداعية للسلام والداعمة له تجعلها مستحقة لمراكز متقدمة أكثر مما تظهر به في المؤشر؛ فهي من الدول التي تأسست على فكر السلام والتسامح، وآمنت على مر العصور بالإمكانات التنموية التي يحققها مفهوم السلام على كافة الأصعدة.
إن تقدُّم عُمان في مؤشر السلام العالمي 2021 بالرغم من تأثيرات الجائحة وتداعياتها، يعكس الحِراك المجتمعي الذي تقوم به المؤسسات والأفراد من ناحية، والمواقف التي تقودها على المستوى المحلي والعالمي من ناحية أخرى. فلقد حرُصت عُمان على تبني فكر السلام في العالم، وهو النهج الذي ينتهجه المجتمع في مواقفه المختلفة التي تعبر عن نهج راسخ لا تغيِّره الظروف، ولهذا سنجد أن مفهوم (السلام الإيجابي) يتأسس في المنظومة المجتمعية وفق سياسات وطنية داعمة للسلام بل مؤسسة له.
والحال أن عُمان في تبنيها لهذا النهج تُقدم فكرا متعاليا على أشكال العنف كلها، متخذا من الهدوء والحكمة أساسا لحل الأزمات، ولهذا فإن سياسة (السلام الإيجابي) تُعد أحد أهم ركائز القوى الناعمة الداعمة للتنمية الاقتصادية والاستثمار بشكل خاص، فكيف أفادت عُمان من نهجها المسالم في التنمية الاقتصادية؟ وكيف أسهم ذلك ففي جذب الاستثمار باعتباره بيئة محفزة؟
إن السلام باعتباره أحد ركائز الثقافة المجتمعية التي تمثل الهُوية الوطنية للدولة يمثل الدعامة الأساسية للتنمية، فإذا كان العنف يؤدي إلى تدهور في السلام الإيجابي وبالتالي تدهور في المستويات التنموية الاجتماعية والاقتصادية، فإن السلام يؤدي إلى النمو في مستويات التنمية، فقد كشف تقرير القيمة الاقتصادية للسلام 2021 (قياس الأثر الاقتصادي العالمي للعنف والصراع) الصادر عن المعهد الآنف الذكر نفسه، أن «التحسن في مستويات السلام يمكن أن يؤدي إلى تحسن اقتصادي كبير في نمو الناتج المحلي الإجمالي والتضخم والعمالة»، وبالتالي فإن الدول التي تعاني من تحديات ومشكلات في تحقيق (السلام الإيجابي) تواجه عقبات تنموية في اقتصاداتها.
وتحت عنوان (أثر التحسن في السلام الإيجابي على النتائج الاقتصادية) يقدم التقرير أهمية (السلام الإيجابي) باعتباره (منهجا) في تحقيق (نتائج اقتصادية أقوى)، و(مرونة أعلى)، و(مقاييس رفاهية أفضل)، و(مستويات أعلى من الشمولية والأداء البيئي الأكثر استدامة)، إضافة إلى اعتباره «بيئة مثالية يمكن أن تزدهر فيها الإمكانات البشرية» ـ بتعبير التقريرـ. إن هذه الأهمية وذلك الأثر لا يمكن أن يتحققا سوى باعتبار (السلام الإيجابي) أداة للقياس التجريبي لمرونة الدولة، وقدرتها على التصدي للصدمات والتعافي منها، وبالتالي قدرتها على تنمية دخلها الاقتصادي اعتماد على قدرتها الإيجابية وعلاقاتها الخارجية المبنية على السلام.
إن الثقافات الوطنية المبنية على فكر (السلام الإيجابي) قادرة على تحقيق نتائج اجتماعية واقتصادية أفضل؛ ذلك لأن المستويات الأعلى من السلام الإيجابي «ترتبط إحصائيا بنمو أكبر للدخل، ونتائج بيئية أفضل، ومستويات أعلى من الرفاهية، ونتائج إنمائية أفضل، ومرونة أقوى» ـ كما جاء في تقرير القيمة الاقتصادية للسلام ـ وبالتالي فإن مؤشر السلام العالمي يعد مؤشرا للتقدم الاجتماعي والاقتصادي بما يعكسه من دلالات إحصائية مباشرة بين مستويات التنمية المختلفة.
ولأن السلام الإيجابي يُعد مؤشرا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية بل والبيئية فإن أهمية تعزيزه باعتباره ركيزة وطنية قادرة على تحقيق الأهداف التنموية، وبيئة محفزة ومعززة للاستثمارات خاصة الأجنبية منها، لذا فإن سلطنة عُمان تُعد من الدول التي منحت هذا المفهوم قوته وطاقته الإيجابية حينما رسَّخته في مجتمعها، وقدمته ضمن ركائز هُويتها الوطنية، ولقد عملت على دعم قوة هذا المفهوم من خلال إيجاد علاقات قطاعية تكاملية داخليا وخارجيا، وهي علاقات ناتجة عن وعيها بأن (السلام الإيجابي) لا ينحصر على بناء علاقات إيجابية محليا وخارجيا بل إيجاد منظومة عملية متكاملة تربط النظم الاجتماعية والاقتصادية وفق نطاق ثقافي عام؛ ذلك لأن السلام يقوم على ثمانية أركان رئيسة هي ـ بحسب تقرير القيمة الاقتصادية للسلام ـ «حكومة جيدة الأداء، وبيئة عمل سليمة، وقبول حقوق الآخر، وعلاقات جيدة مع الجيران، وتدفق مجاني للمعلومات، ومستويات عالية لرأس المال البشري، ومستويات متدنية من الفساد، وتوزيع عادل للموارد».
إن عناية الدولة لهذه الأركان الثمانية لـ (السلام الإيجابي) يضمن قدرتها على تحقيق السلام داخليا على المستوى الاجتماعي، الأمر الذي سينعكس على قدرتها على التنمية الاقتصادية، يبقى بعد ذلك إمكانات تعزيز مستوى تلك التنمية ودعمها لتكون أحد أهم محفزات الاستثمار في الدولة، وهذا ما يجعل الدول تروِّج لما حققته في مؤشرات السلام والأمن العالمي لتكون ضمن الدول الجاذبة والمحفزة للاقتصادات الاستثمارية المختلفة، ولهذا علينا جميعا دعم مسيرة السلام في الوطن وتعزيز إسهاماته من خلال دعم أركانه اجتماعيا وثقافيا وإعلاميا، وبالتالي اقتصاديا وبيئيا، لتحقق عُمان قفزات في مؤشر السلام العالمي ومؤشرات الأمان، وتحقق تقدما أكبر في النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.