إعادة تصور التعليم والتغير الاجتماعي
قد لا تضيفُ هذه المقالة جديدًا في شأن ما يناقشهُ الرأي العام عن أحوالِ التعليم وأوضاعهِ في بلادنا، ولكنها تحاول فهم بعض العتبات المنهجية في المناقشة ذاتها. ففي الوقت الذي لا يُختلف فيه على أن التعليم محرك رئيس لاتجاهات التنمية، وأن التوجهات التي تصوغها المنظومة التعليمية تحدد قوة الكم والكيف الذي يمكن أن يكون بها التعليم حافزًا لنمو الاقتصادات وبناء الدول. فإن الحديث عن أوضاع التعليم وقياس أثر السياسات التعليمية، يجب أن يرتكز على أساس منهجي لكي تكون القراءات دقيقة، وبالتالي تكون السيناريوهات والبدائل والتدخلات التي يمكن بها إصلاح بعض الأعطاب ناجعة وفعالة. ففي تقديرنا هناك عتبتين منهجيتين تبرزان إلى جانب عتبات أخرى في مناقشة أوضاع التعليم. أولى العتبات هي مسألة تحديد ملامح جودة التعليم، حيث لا يزال الارتكان إلى المؤشرات الدولية محدد رئيس لهذه الجودة، ورغم الأهمية البالغة التي يمكن الاعتداد من خلالها على ما تقوله هذه المؤشرات إلا أن مسألة جودة التعليم لا يمكن فصلها عن إطار السياق الثقافي والاقتصادي والاجتماعي القائم في المجتمع الذي تنشط فيه العملية التعليمية، فهي ليست غاية في ذاتها أن تكون هناك نظم تعليمية ناجعة ومتسمة بأقصى محددات الجودة والتنافسية، بقدر ما هي وسيلة لأن يؤدي التعليم دوره في الحياة المجتمعية والاقتصادية والثقافية، بأن ينتج أفراد يتسمون بالدافعية للفضول المعرفي، ويكتسبون أدوات الابتكار، ويتحلون بالتفكير الناقد، ويلتزمون بمحددات القيم الوطنية، وينفتحون حوارًا وتبادلًا فكريًا ومعرفيًا على العالم، ويساهمون في التنمية بإيجابية، ويحافظون على بنية الثقافة الاجتماعية الوزانة، ويعلون من احترام قيمة العلم والمعرفة، إضافة إلى دورهم في تنشيط اقتصاديات المعرفة عبر مختلف مواقع انتاجهم ونشاطهم. إلا أن كل ذلك أيضًا له شرطياته الاجتماعية والثقافية، التي قد تحفز أو تحد من قدرة النظم التعليمية في ذاتها على أداء هذه الأدوار واخراج هذا المنتج. وبالتالي فإن الحديث عن جودة التعليم ومع الأهمية لقياسه كميًا ووفق المحكات المتعارف عليها، إلا أنه لا يمكن عزله عن فهم وقياس وتحليل البيئة المحيطة بالتعليم وكيف يؤثر فيها أو يتأثر بها.
أما العتبة المنهجية الثانية فهي إغراق النقاش في شأن مدى الانفصال أو الاتصال بين مخرجات التعليم ومتطلبات أسواق العمل، وهذا النقاش تحفزه عبر حقب زمنية معينة قضايا من قبيل تراكم أعداد الباحثين عن عمل والتحديات التي تواجهها منظومات التشغيل وأنظمة تدبير أسواق العمل، وغالبًا ما يحاكم في نقاشها التعليم الجامعي (الأكاديمي) في معزل عن التعليم المدرسي، وفي تقديرنا هذه المناقشة غير مكتملة من الناحية المنهجية، فإذا ما أردنا فهم الدور الكلي للتعليم المدرسي فهو أساس لبناء الشخصية والمعارف العامة، وحين نتحدث عن الشخصية نتحدث عن قدراتها ومداركها وسماتها وقيمها بالإضافة إلى التأسيس على المعارف العامة التي تمكن الدارس من تنشيط فضوله المعرفي، وإطلاعه وتعلمه الذاتي، وتوسعه في البحث والتنقيب. أما الدور الذي ينبغي أن يضطلع به التعليم الجامعي (الأكاديمي) فهو بناء المعرفة التخصصية، وبالتالي فحين الحديث عن مصطلح (مخرجات التعليم) ومقارنتها بأسواق العمل، فلا يمكن عزل المرحتلين منهجيًا في النقاش، فما تتأسس عليه الشخصية من مدارك في التعليم المدرسي ينبني على ضوئها مدى التمكن من التخصص والقدرة على الانتاج فيه والتوسع والابتكار والتنقيب في مخرجاته لاحقًا من خلال التعليم الجامعي (الأكاديمي).
وعليه نرى أن المرحلة تتطلب ضرورة وجود مراجعة وطنية تفصيلية لجودة التعليم، هذه المراجعة قد تكون في شاكلة دراسة وطنية، يخرج عنها مجموعة من أوراق السياسات التي تتوجه بشكل مباشر لإجراءات معينة تضمن التحول نحو ضمانات جودة التعليم. مع ضرورة أن تجيب على أسئلة من قبيل: هل يلبي التعليم اليوم الاحتياجات التنموية والاقتصادية الفعلية المطلوبة من منظومته؟ وما المحددات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الأكثر تأثيرًا في بنية التعليم؟ وهل يساهم التعليم في بناء المنتج الفردي المفكر الناقد والفضول معرفيًا والقادرة على إضافة قيمة ثقافية واقتصادية للتنمية المحلية؟ وهل تصميم النظام التعليمي بوضعه الراهن يسهم في دعم التغير الاجتماعي المنشود؟ تلك أسئلة كبرى من الممكن أن تتحول إلى أسئلة تفصيلية على أن يبقى الغرض هو قياس مدى تفاعل النظام التعليمي الراهن مع محددات الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وقدرته على التأثير فيه أو التأثر به.
إن تفاصيل معينة في تصميم النظم التعليمية مثل طول اليوم الدراسي، وكمية المواد التعليمية، والنصاب التعليمي، وأولويات الحاجات المعرفية، وكمية الأعمال المنزلية المطلوبة من المتعلم، والصورة الاجتماعية للمعلم، كلها تفاصيل تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر ليس فقط في أداء النظام التعليمي ومخرجاته، وإنما في بنية الحياة الاجتماعية عمومًا، وبالتالي فإن إيجاد رؤية تشخيصية لوضع النظام التعليمي في علاقته بالأبعاد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية القائمة من الممكن أن يحول التعليم إلى أداة للتغير الاجتماعي المنشود، والمخطط الذي يتناسب مع الضرورات والأولويات الوطنية في المرحلة الراهنة. كما من الممكن على الجانب الاقتصادي أن تخرج لنا هذا التشخيص ملامح القيمة المحلية المضافة من هذا القطاع بكافة عملياته، والذي يعتبر محركًا أساسيًا من محركات المحتوى المحلي نظير أنشطة الخدمات العامة، والبناء والتشييد، والنقل، والتغذية، والموارد التعليمية، والتكنولوجيا، وغيرها مما قد يعظم مساهمة القطاع في تعزيز المحتوى المحلي وإثراءه.
حين وضعت مؤسسة بيرسون دراستها الشهيرة حول أفضل النظم التعليمية بالقياس على الفترة بين عامي 2006 و 2010 ذكرت في خلاصة الدراسة نقطة بالغة الأهمية وهي "الثقافات الداعمة للتعلم قد توازي أهمية تمويل التعليم نفسه، كما يتضح من الدول الآسيوية ذات التصنيف العالي، حيث يحظى التعليم بتقدير كبير ويكون لدى الآباء توقعات كبيرة. بينما تختلف فنلندا وكوريا الجنوبية اختلافًا كبيرًا في طرق التدريس والتعلم، إلا أنهما يحتلان الصدارة بسبب الإيمان الاجتماعي المشترك بأهمية التعليم و الغرض الأخلاقي الأساسي". وهذا يعني أن أي محاولة لفهم جودة التعليم وكفاءة النظم التعليمية لا يمكن فصلها عن حساسية/ احتياجات/ محددات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
• مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع