إشكالية الفهم في عموم اللفظ وخصوصية السبب

12 ديسمبر 2021
12 ديسمبر 2021

ما بين عموم اللفظ وخصوص السبب هناك إشكالية مفاهيمية؛ وليست معرفية، والذي يجسر هذه الإشكالية، هو مجموعة من المقاربات العملية والسلوكية، واللفظية، حيث ينظر إلى كل منها بعين الاعتبار، ولا تؤخذ هكذا بعموميتها، لأن في التعميم مضرات، يتلظى بها آخرون يقع عليهم الفعل السيء، فلا يجدوا الانصاف، ويقعون في حكم العمومية، فزجر ولي الأمر لولده/ بنته هو في عموم حق التربية لهم، وعليه، ولكن لا يتخذ ذلك متكأً لكل صغيرة وكبيرة، وإنما توزن الحاجة بقدرها، فمن العموم أيضا أن يكون لك صديق، ولكن في الخصوص من هو هذا الصديق الذي يستحق؟ وفي العموم أن يكون لك أقارب، وفي الخصوص من هؤلاء الأقارب الذي يجب أن يحظى بهذه القربى؟، وما ينطبق على هذا المثال؛ ينطبق على أمثلة كثيرة في الحياة، يرى فيها أصحابها أن لهم الحق في كل شيء، ولهم الفضل في كل شيء، ولهم اليد الطولى في كل شيء، فهذا التعميم غير صحيح، ويجب تصويب مسارات الكثير من السلوكيات، ومن المفاهيم، حتى لا يكون هناك ظلم، وحتى تسود العدالة ولو بصورة نسبية؛ على ما هو معمول به بحكم العادة السؤال هنا؛ هل هناك احتدام لصراع ما بين عموم اللفظ وخصوص السبب؟ وللإجابة على السؤال، أن جل المفاهيم التنظيرية تحتمل صراعا ما، فما بين الخير والشر صراع، وما بين العدالة والظلم صراع، وما بين الحق والباطل صراع، فهذه مجموعة من المتناقضات، فطبيعي أن يحتدم بينها صراع ما، والذي يظهر هذا الصراع؛ هو ما يحدث في واقع الناس، وهذه المفاهيم وغيرها هي ذاتها واقعة في مسألة إشكالية الفهم في عمومية اللفظ وخصوصية السبب، ونؤكد على أنها إشكالية مفاهيمية فقط.

بين عمومية اللفظ وخصوصية السبب يظل الإسقاط قائما في البداية بين العام والخاص؛ كما جاء في المقدمة؛ والعام والخاص ثمة علاقة تشابكية على قدر كبير من الأهمية في الفضاءات المعرفية في العدالة والتعاون والتوافق، وهذا الفهم يحملنا إلى المسؤوليات الكبيرة المتعلقة بالأوطان، فالأوطان تراهن دائما على التحرر من ضيق الخاص "خصوص السبب" إلى الفضاءات الشاملة، وتغرس في أبنائها تجاوز كل ما هو خاص حتى لا يقع في المصالح الذاتية الضيقة، لأنها تسقط الإنجاز العام، وتقزمه، إلى حد كبير، ولذلك ينظر بكثير من الأهمية في حالة تسلط بعض الأفراد على المقدرات العامة، ويعد ذلك منطلقا خطيرا، وحدثا يجب أن يحتوى في استثنائيته فقط، ومن هنا تأتي أهمية البناءات التربوية التي تنتجها المناهج عبر مؤسسات التعليم في كل مراحلها، بدءا من المدرسة وانتهاء بالجامعة، فهذا التأسيس التربوي العام، هو ما ينظر إليه بعين الاعتبار في تأثيره في تحييد مشروعات الوطن عن الوقوع في مأزق الخاص.

نُمتحن دائما في مفهوم "عموم اللفظ" لأنه يمثل "حمالة أوجه" وقابل للتأويل، في أي شأن من شؤون الحياة، ولذلك عندما يتم الاستدراك سواء في الحديث، أو في الفعل، يأتيك الرد من الطرف الآخر سريعا: "أنا لا أقصد ذلك" كيف لا تقصد، وقد أجملت القول، وأصدرت الحكم، ويأتي الامتحان أكثر لأن الأطراف ليست عندها علم الغيب؛ حتى تدرك حقيقة ما يدور في النفس، من هواجس، وانفعالات، ولذلك فالناس معذورون عندما يصدرون حكمهم في الظاهر، ولو ارتكن الناس على قاعدة "أنا لا أقصد ذلك" فسوف ترتكب الكثير من الحماقات والأفعال المشينة في حق الآخرين، ويأتي من قام بالفعل وبكل برود، ويقول: "أنا لا أقصد فعل ذلك"هنا يستلزم الأمر العودة دائما إلى خاصية الأسباب، فمن خلالها تتخفى مجموعة الاحتمالات الذاهبة إلى ارتكاب الفعل، ونخص هنا الفعل الشائن، لأن الأفعال الحميدة مباركة، لأن مردودها خير، ولا خوف من ارتكاب الفعل الرشيد، ولذلك؛ ومن واقع الحياة؛ أن كل فرد فينا معرض لامتحان الإرادة في قاعدة "عموم اللفظ" ومن هنا تفرض القيم استحقاقاتها من هذه القاعدة، فكيف لنا؛ على سبيل المثال؛ أن ننطلق من عموم اللفظ لتعميم الصدق؛ على كل قول متفوه به من قبل الآخرين؟ صحيح أن ما بين الصدق والكذب فاصل دقيق، ولكن هذا الفاصل يغير الكثير من الأحكام المتحصلة بعد النتائج، وبالمثل فيما يخص المساواة والعدالة والظلم، والتعاون، والتضحية والأنانية، والبخل والكرم، والأمانة والخيانة، لأن الصورة الظاهرة، والتي يبديها الجميع؛ هي الصورة العامة لجماليات الأشياء، والتي تتوافق مع "عموم اللفظ" ولكن عند إخضاعها لميزان التحقق، تظهر الكثير من النتائج التي تشير إلى أن "خصوص السبب" هو الفاعل الأكبر في ذلك، وهو المحتكم الختامي للأنشطة، والأفعال، وهذه المسألة في غاية التعقيد؛ عند البحث فيها؛ ولكنها في المقابل؛ هي معايشة، ومن السهولة بمكان الوصول إلى نتائجها، وذلك بشيء من الدقة، (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد) – الآيتان (204 -205) من سورة البقرة – وتقول الرواية أن الآيتين نزلتا في الأخنس بن شريق؛ حيث كان يظهر الود للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه في المقابل غير ذلك تماما؛ حيث كان من المنافقين، والمقاربة هنا هو هذه الرؤية العامة للصورة والفعل في شأن أي إنسان يحيط نفسه بجماليات الأفعال فيحظى بعموميات المديح، والإشادة، وإذا به يسقط نفسه في متناقضات السلوكيات التي تتناقض وهذه الصورة العامة، فيقع في مستنقع الخصوصية، وفي المقابل سيدفع الثمن بنفسه، وإن تضرر الجميع؛ ابتداء؛ من عموميات الصور الإيجابية التي أبداها، والأفعال الحميدة التي قام بها في تلك اللحظة.

تتسع الرؤية وفق القاعدة الفقهية؛ "الأمر كلما ضاق اتسع؛ وكلما اتسع ضاق" فالإنسان بقدر ما هو محمول على تأدية الواجب، فإنه في المقابل ينظر في الظروف المحيطة به عندما يضيق الأمر في تنفيذ هذا الواجب، ولا يوضع بين أمرين أحلاهما مر، لأن في ذلك مدعاة إلى "احتمال ما لا يحتمل" وهذا ليس من الحكمة بمكان، ومن هنا؛ كما أرى؛ تأتي اجتهادات العلماء الأجلاء في أي شأن من شؤون الحياة، ولذلك يقال دائما: "اختلاف العلماء رحمة" ويقينا؛ أن الأمر في اتساع الحكم لن يصدر من أي ناعق، وإنما من الذين أبحروا في علومهم التخصصية، ووصلوا إلى مستويات عالية، وسامية، يحق لهم من خلالها أن يقولوا رأيهم في أي مسألة من مسائل الحياة، فيما يخص تخصصهم، ومن هنا يظهر الأمر في مسألة إنكار المنكر بـ "اللسان" فليس لأي حد أن ينكر منكرا ما بلسانه، دون أن يعي ما هي حقيقة هذا الأمر أو ذاك، وللوصول إلى حقيقة ما؛ في أي أمر؛ في شأن نكرانه باللسان، يحتاج إلى علم وفير، وجهد عميق، وقياس للظروف المحيطة في العصر الذي يكون فيه، ولهذا تأتي الغرابة؛ أحيانا؛ في شأن أولئك الذين يخوضون بآرائهم في كل صغيرة وكبيرة، دون أن تكون عندهم أدنى معرفة في ذات الأمر، سوى "ثرثرة" لا تسمن ولا تغن من جوع.

يذهب منهج خصوص السبب إلى المركزية، والمركزية على أهميتها في حياة الناس العملية، إلا أن الفهم ذاته يذهب إلى أن عمومية الأداء وتشاركية الفعل، كما هو حال النواة في تموضعها المكاني، ومن ثم تتفرع البذرة إلى شجرة كبيرة وافرة الظلال، وعندما يقاس ذلك على الفهم الذاهب إلى حقيقة المجتمع، الذي ُتكوّنه؛ في الأصل؛ أسرة، فتتكاثر الأسرة لتشكل قرية، وتتعدد القرى لتشكل مدنا، ومن ثم وطنا بأكمله، وتذهب المقاربة ذاتها إلى مفهوم الفكرة التي تكبر إلى مستوى المشروع، ومن ثم يأتي المشروع بنتائجه الكبيرة على المجتمع خاصة، ومن ثم الوطن عامة، هذا التسلسل يمكن قياسه على كثير من أنشطة الحياة، ولكن تظل الإشكالية دائما في المسألة التنظيرية عندما تطلق أحكاما عامة على قضايا خاصة، أو يختزل هذا العام ليذوب في الخاص، فهذا الأمر هو الذي يربك الفهم، ويتقاطع مع كثير من القناعات، وربما الأسس المعرفية، ويحدث خللا في المفاهيم العامة عند الناس.