إخراج لبنان من النفق .. مسؤولية أبنائه أولا!!
خلال الأيام الأخيرة، وخاصة منذ مظاهرة أنصار حزب الله اللبناني وحركة أمل يوم الخميس الماضي، ضد القاضي طارق البيطار الذي يتولى التحقيق في انفجار مرفأ بيروت في الرابع من شهر أغسطس من العام الماضي، وما تخللها من تبادل لإطلاق النار من جانب بعض مؤيدي حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع من ناحية، ومؤيدين لحزب الله وحركة أمل من المتظاهرين من ناحية ثانية، حبس الكثيرون -داخل لبنان وخارجه- أنفاسهم، حيث تجمعت في الأفق اللبناني نذرا وغيوما أعادت اللبنانيين إلى ذكريات مأساوية بكل المعاني، وقطعت على الكثيرين منهم مشاعر الأمل والتفاؤل بنجاح حكومة نجيب ميقاتي في الخروج بلبنان من النفق المظلم، وتحولت الأمتار الأخيرة من النفق، التي يتحتم على حكومة نجيب ميقاتي عبورها بسلام وتعاون كل الأطراف اللبنانية، تحولت فجأة إلى أميال من الشك والضباب، والى عدم يقين بما يمكن أن يكون عليه لبنان، الدولة والمجتمع والمواطن اللبناني، إذا استمرت حالة الاستقطاب ومحاولات البعض إشعال الحريق اللبناني مرة أخرى، وهو حريق يتجاوز بالتأكيد في مخاطره واتساعه، حريق مرفأ بيروت العام الماضي برغم كل ما ترتب عليه من نتائج خطيرة، لا تزال تأثيراتها قائمة.
وفي ضوء ذلك لم يكن مفاجئا ولا غريبا أن يتنادى الجميع بالدعوة إلى التهدئة وتجاوز الخلافات، والحث على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، وتجنب الانجرار إلى الفتنة والسقوط فيها مرة أخرى، وتجنيب لبنان، الدولة والمجتمع والمواطن المزيد من المخاطر والمعاناة وتفكك اللحمة الوطنية اللبنانية على نحو ينذر بمخاطر جمة على مستقبل الدولة اللبنانية التي تكاد تتمزق بسبب حالات الشد العنيف لجسدها من جانب الأطراف السياسية اللبنانية التي يتمترس كل منها خلف ميليشيا مسلحة، يتوفر لها من الأسلحة والعتاد ما لا يتوفر للجيش اللبناني أحيانا، وهذه مفارقة باتت تطرح على اللبنانيين أسئلة ملحة حول كيفية التعامل معها والخروج من مخاطرها بأقل قدر من الأضرار، وبما يحافظ على لبنان الدولة والمجتمع والمواطن أيضا، ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل ما حدث في بيروت الأسبوع الماضي حدث فجأة ؟ أم كانت له نذر ومقدمات ما، ربما لم يتوقف عندها كثيرون؟ وهل يمكن الخروج من هذه الحالة الاستقطابية الحادة، التي تضع لبنان على المذبح بالفعل، وبشكل ليس مسبوقا في مخاطره على الأقل؟ ومن أين يمكن البدء في التعامل مع هذا المأزق، الذي يكاد يطيح بآمال وطموح وتفاؤل جموع اللبنانيين الذين تنفسوا الصعداء بعد تشكيل نجيب ميقاتي لحكومته وبدء عملها؟ وهل اكتشف البعض أن تصريحات ميقاتي وسياساته التي أعلن عنها، وما تم تسميته «مبدأ ميقاتي» قد يعرقل خططها وأهدافها ومصالحها فعجل بمحاولة الضغط عليها على النحو الذي هدد كل لبنان ؟ ويدعونا ذلك إلى التساؤل حول مدى المسؤولية في مواجهة كل تلك المخاطر التي تعصف بلبنان، وهل المسؤولية تبدأ من الداخل أم من الخارج، الخارج الإقليمي والدولي بالطبع؟
وفي إطار هذه المخاوف والتساؤلات، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي:
أولا: أنه إذا كانت كل القوى والطوائف اللبنانية قد خبرت مخاطر ومأساوية الثمن الفادح للحرب الأهلية اللبنانية، خلال الفترة التي امتدت منذ عام 1975 حتى عام 1989، وما ترتب عليها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفي كل المجالات دون استثناء، بما في ذلك ما يمكن تسميته «روح لبنان وطبيعته المميزة»، ومع الوضع في الاعتبار ما مر به لبنان من مشكلات في أعوام 2006 و2008 حتى الآن، وما برز من محاولات مستميتة لتأمين أدوات تأثير على الأداء والسياسات اللبنانية، من قبيل «الثلث المعطل» والدعوة لهز الاستقرار والتوازن بين الطوائف اللبنانية، تارة بدعوى النمو السكاني لهذه الطائفة أو تلك، وتارة بامتلاك القدرة العملية على فرض أمر واقع على الأرض في صالح قوة سياسية أو طائفة أو توجه معين، إلا أنه من حسن الحظ أن كل الأطراف والطوائف والقوى السياسية تتمسك حتى الآن على الأقل ، وعلى المستوى العلني من جانب قياداتها، بمبدأ التعايش اللبناني بين القوى والطوائف اللبنانية، وبالمبادئ التي تضمنها دستور عام 1943 الذي استقل لبنان على أساسه، والذي تم التأكيد عليه في اتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى أواخر ثمانينياته، صحيح هناك دعوات وتحركات عديدة ومحسوسة تحت السطح وتعبر عن نفسها أحيانا في تقلصات حادة تخرج إلى العلن، أو تتمثل في دعوة ما على استحياء، ولكن الصحيح أيضا هو أن مختلف القوى اللبنانية بما فيها تلك التي تتوق إلى تغيير وضعها وممارسة تأثير أكبر وأقوى مما وصلت إليه، لا تزال تفضل البقاء تحت العباءة اللبنانية لدستور 1943 وتجنب الزلزال الذي سيترتب بالضرورة على إعلانها الخروج الصريح عليه.
وفي الوقت ذاته فإنها -أي تلك القوى- لا تدخر وسعا في تأكيد قوتها السياسية وعلى مستوى الشارع اللبناني في بعض الأحيان، وفي مواقفها، المعرقلة لما لا تراه مناسبا لها، والمسهلة لما ترى أنه لا يتعارض مع مصالحها، والكثير من الأحداث والتطورات في لبنان الشقيق يؤكد ذلك ويدلل عليه بدرجات ووسائل مختلفة، والأشهر الأخيرة، على سبيل المثال، تعج بالكثير من الأمثلة والوقائع في هذا المجال، بكل ما ترتب ويترتب عليها من نتائج.
وإذا كانت مصلحة لبنان الدولة والمجتمع والمواطن، تتمثل في ضرورة الحفاظ على لبنان، وروحه المميزة، وعلى اللحمة والنسيج الوطني اللبناني الخالص الذي يجمع كل أبنائه، والذي يعلي الانتماء للبنان فوق أي انتماء آخر، على الأقل بفعل ما هو مأمول؛ فإنه من المهم والضروري إلى حد بعيد العمل بكل السبل الممكنة من أجل التأكيد على اللحمة والمظلة اللبنانية وعلى الحفاظ على النسيج الوطني اللبناني، ومن ثم وقف الانجرار إلى الصراع الميليشياوي والطائفي الذي يدمر ما يجمع بين اللبنانيين من وشائج، والذي وصل في بعض الأحيان إلى القتل على الهوية على حواجز بيروت والجنوب والجبل في بعض فترات الحرب الأهلية اللعينة. ومن المؤكد أن الخطوة الأولى في هذا المجال تتمثل في التغلب بشكل واعٍ على خطر الاستسلام لحسابات التفوق، أو الشعور بالتفوق الذاتي من جانب أية ميليشيا أو قوة أو طائفة لبنانية على الطوائف الأخرى، ثم الوقوع في مهاوي الفتنة الطائفية وإشعال الحريق اللبناني مرة أخرى ، لسبب بسيط هو أن كل الأصابع ستحترق فيه بالتأكيد، ولن يخرج أي فريق منتصرا في النهاية، وكان ذلك هو الدرس الجوهري للحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي .
ثانيا : أن ما سبق الإشارة إليه؛ يشير بوضوح إلى حقيقة أساسية وهى المسؤولية الكبيرة الحاسمة للقيادات السياسية اللبنانية ولقيادات الطوائف اللبنانية ، الدينية والسياسية والاجتماعية، بما تملكه من تأثير وقدرة على الفعل على مستوى الشارع اللبناني.
فمن المعروف أنه حتى الآن على الأقل، فإن تأثير القيادات الدينية والاجتماعية اللبنانية لا يقل كثيرا عن تأثير القيادات السياسية للطوائف المختلفة، وكثيرا ما تهرع القيادات السياسية للاستقواء بالقيادات الدينية والاجتماعية الأخرى لتمرير مواقف معينة، أو التأكيد على مواقف أو خيارات أخرى في وقت أو آخر.
ومن هنا تأتي وتنبع المسؤولية الوطنية للقيادات اللبنانية حيال لبنان الوطن والمجتمع والطائفة أيضا دون تقاطع أو تعارض بالطبع، وبالتزام بالمصالح العليا للبنان في حاضره ومستقبله كذلك. وعلى ذلك فإن القيادات السياسية والطائفية والاجتماعية اللبنانية مدعوة إلى العمل من أجل الحفاظ على لبنان الدولة والمجتمع، وعلى تماسكه ولحمته الوطنية، بعيدا عن أية إغراءات للسير في اتجاهات تدمر الوطن اللبناني، أو تغير من طبيعته المرنة والمحبة للحياة والراغبة في التعايش السلمي على أرضه وبين كل طوائفه دون استثناء، كما كان عليه الأمر على مدى عقود طويلة. ولكن السؤال هو هل تستطيع القيادات اللبنانية القيام بما تتطلبه مسؤوليتها الجسيمة تلك من قرارات ومواقف تبتعد عن جاذبية المواقف الشعبوية وعن دغدغة مشاعر الشارع الطائفي بشكل أو بآخر؟ الجواب بالتأكيد هو بالإيجاب، بشرط أن تكون تلك القيادات راغبة وجادة وحريصة على النجاح في هذا المجال، وما يقتضيه ذلك من تعاون مخلص، ولصالح لبنان، مع الطوائف الأخرى.
وإذا كانت قد ظهرت بعض التطورات والمواقف المثيرة للمخاوف من جانب هذه الطائفة أو الميليشيا ، أو غيرها ، سواء في الأسابيع الأخيرة أو من قبل ، فإن الرهان على وعي القيادات السياسية والطائفية والدينية اللبنانية وانحيازها إلى المصلحة الوطنية اللبنانية ، يرجح الأمل في إمكانية تجاوز حالة التقلص والاستقطاب الحادة الراهنة بين القوى اللبنانية ، وتساميها وارتفاعها عن إغراءات المصالح الضيقة والصغيرة على مستوى الحزب والطائفة إلى مستوى المصالح العليا للبنان وبقاءه وازدهاره لصالح كل أبنائه دون استثناء ، وحسنا أعلنت قيادات مؤثرة في حزب الله وغيره أنها لن تنجر إلى حرب أهلية بسبب ما حدث .
ثالثا : أنه مع الوضع في الاعتبار أن مقدمات الأزمة اللبنانية الأخيرة ، التي تدور حول التحقيق الذي يقوم به القاضي طارق البيطار حول تفجير مرفأ بيروت واتهام حزب الله وحركة أمل الشيعية له بتسييس التحقيق ، لدعوته بعض النواب المنتمين إليهما وبعض وزرائهما أسوة بآخرين ، في إطار التحقيق ، ووصول الأمر إلى ممارسة ضغوط حادة من جانب حزب الله وحركة أمل لعزل القاضي طارق البيطار ، ولوقف التحقيق في جريمة مرفأ بيروت ، والوصول إلى حد تسيير مظاهرات تدعو لإعفاءه من منصبه ، وحتى إشارة بعض القيادات السياسية ذات الوزن إلى تحذيرات من استمراره في التحقيق ، قد جعل مما حدث في بيروت مؤخرا تطورا مرتبطا بمقدماته، وأن الأمر لم يكن مفاجئا، خاصة مع اضطرار مجلس الوزراء اللبناني إلى تأجيل جلسته التي كانت مقررة في 13 أكتوبر الجاري ، فإن الخطر الذي يمكن أن يهدد بتفاقم حالة الاستقطاب وتحولها إلى صراع حاد ، وربما ساخن لا قدر الله، بين الميليشيات التي انطلقت بنادقها في مظاهرة بيروت يوم الخميس الماضي، يتمثل في دخول الأطراف الإقليمية والدولية ذات المصالح في لبنان، للوقوف إلى جانب ومناصرة الأطراف التي تعمل معها أو تخدم مصالحها بشكل أو بآخر ، ثم اتساع الصراع بين الميليشيات والأطراف اللبنانية ليكون في أحد أبعاده صراعا بالوكالة ، كما كان خلال الحرب الأهلية اللبنانية اللعينة وبعدها .
وإذا كانت القوى الإقليمية والدولية لا ترى إلا مصالحها المباشرة وغير المباشرة على الساحة اللبنانية ، وتسعى إلى الحفاظ عليها بكل السبل الممكنة ، مشروعة وغير مشروعة ، فإن الكرة تعود مرة أخرى إلى الأطراف اللبنانية الداخلية وإلى القيادات السياسية والطائفية اللبنانية للحفاظ على لبنان ومصالحه الوطنية وعدم إعطاء الفرصة لأية أطراف إقليمية أو دولية لاستثمار التطورات في لبنان أو تجييرها لخدمة مصالحها الخاصة . وإذا كان «مبدأ ميقاتي» الذي أعلنه رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي يمكن أن يعول عليه ، خاصة إذا تم التمسك بتطبيقه في مواجهة مختلف الأطراف والقوى الإقليمية والدولية، فإن هناك مخاوف حقيقية من أن تكون عمليات التصعيد الأخيرة من جانب بعض الأطراف اللبنانية ، محاولة محسوبة للدفع بلبنان خطوات إلى الوراء وعرقلة عمل حكومة ميقاتي، أو حتى دفعها إلى الاستقالة . وليس مفاجئا ولا غريبا أن يتساءل نجيب ميقاتي في أحد تصريحاته عن ذلك بكلمات واضحة ومحددة . وعلى أية حال فإنه إذا كان من المهم تأمين أفضل مناخ ممكن ليقوم القضاء اللبناني بدوره في التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت ، حتى لا يتحول التحقيق إلى تحقيق دولي بشكل أو بآخر ، وحتى يطمئن ذوو الضحايا من المتوفين والجرحى أن الجناة سوف يتم محاكمتهم محاكمة عادلة وأن الجاني لن يفر بفعلته دون محاكمة أو دون دفع ثمن جرمه، فإن خروج لبنان من النفق يقع في المقام الأول على عاتق المسؤولين والقوى اللبنانية المتنفذة في الطوائف والأحزاب والمجتمع اللبناني، وكذلك على عاتق القوى والأطراف الإقليمية والدولية التي يمكنها المساعدة في هذا المجال بشكل أو بآخر مع إدراك عمل كل منها لتحقيق مصالحه، ومن هنا فإن الطوق العربي لدعم لبنان يمكن أن يسهم في الحد من التأثيرات الإقليمية والدولية التي لا تراعي المصالح اللبنانية ، دون الوقوع في هوة الصراع أو التنافس بالوكالة بين الأطراف العربية والأطراف الإقليمية الأخرى، لأن ذلك ليس في صالح لبنان بالتأكيد ، فهل تستطيع حكومة ميقاتي والقوى السياسية والطائفية اللبنانية القيام بذلك أم أن بعضها سيستسلم لإغراء الشعور الذاتي بالقوة ويدفع بلبنان إلى هاوية الاقتتال الداخلي مرة أخرى؟ ولعل أصحاب الحكمة من اللبنانيين والعرب يستطيعون منع ذلك، حفاظا على مصالح لبنان وعلى المصالح العربية أيضا.