أين الأمم المتحدة؟

11 أبريل 2022
11 أبريل 2022

قبل أكثر من عقد من الزمان، أقدم الزعيم الليبي معمر القذافي، في سورة غضبه الممزوجة كالعادة بالتهكم والسخرية، على تمزيق ميثاق الأمم المتحدة تحت أنظار ممثلي الدول الأعضاء بالجمعية العامة للأمم المتحدة في جلستها الرابعة والستين. كان ذلك الخطاب الطويل الذي استمر لساعة ونصف هو الأول له أمام الجمعية، وقد رأى فيه أنصار «ملك ملوك أفريقيا» مرافعة علنية عن بلدان «العالم الثالث»، حيث اعتبر الزعيم الليبي أن الميثاق الذي خرج للعالم بأقلام المنتصرين على ألمانيا النازية لم يعد صالحاً ولا مقبولاً منذ أن رفعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وأُميط اللثام عن وجه النظام العالمي الجديد، مندداً بسياسات الغطرسة والتحكم التي تمارسها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، المتمتعة بحق النقض (الفيتو). ومهما يكن قائل هذه الكلمات إلا أن صرخته المدوية في نيويورك تبقى من أكثر اللحظات صراحة في تاريخ الأمم المتحدة، الذاهبة في الانحدار والفساد والإذعان لسطوة القوة التي تفرضها الدول الكبرى على دول الهامش في خريطة العالم. فهل برز تطور يُذكر في أسلوب الأمم المتحدة تجاه قضايا العالم الحساسة خلال السنوات الماضية؟ وإلى أي مسار أعمى تذهب الأمم المتحدة بأجهزتها الستة في مواجهة استحقاقات الأمن والاستقرار التي يعيشها عالم اليوم المهدد؟

برغم من ولادتها العسيرة والشائهة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفشل عصبة الأمم، إلا أن الأمم المتحدة ظهرت على الساحة الدولية كإنجاز مشهود للدول الخمسين المجتمعة في مدينة سان فرانسيسكو، التي اعتمدت في ٢٥ يونيو من عام ١٩٤٥ ميثاق الأمم المتحدة، ليدخل حيز التنفيذ في ٢٤ أكتوبر من العام نفسه، التاريخ الذي تحتفي به اليوم ١٩٣ دولةً انضمت إلى جناح الأمم المتحدة منذ ذلك العهد. وخلال ال76 عاماً الماضية واظبت الأمم المتحدة على الحضور المتفاوت في أهم الأحداث العالمية، فكانت لها يدها في المآسي الإنسانية الكبرى التي تنفجر بفعل الإنسان نفسه أو بفعل الطبيعة. وفي مناسبات كثيرة كانت تكتفي بالتنديد وإبداء الأسى والقلق على لسان أمينها العام. ومن الطرفة أن أتذكر هنا أحد الأصدقاء وهو يطلق لقب «المُعربِ عن قلقه» على السيد كوفي أنان الذي كان يشغل هذا المنصب إبان الحرب على العراق.

إلى جانب إنجازاتها في قطاع التنمية والتعليم ومحاربة الفقر، يجري الحديث أيضاً عن دور الأمم المتحدة في تعزيز السلم والأمن الدوليين، حيث فشلت غالباً ونجحت أحياناً. غير أن الإنجاز الأبرز للأمم المتحدة من وجهة نظري، منذ قيامها حتى الآن، كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته المنظمة عام ١٩٤٨، والذي كان له دور بارز في تمكين ثقافة حقوق الإنسان في الوعي والثقافة العامة وداخل القوانين والأعراف الدولية. لكن الانتهاكات السافرة لتلك الحقوق، التي تمارسها وترعاها دول مارقة، جعلت من شعار «حقوق الإنسان» صرخةً في وادٍ سحيق، وعلكة في أفواه رجال البنتاغون لتبرير غزوات الجيش الأمريكي والسعي لانتهاك سيادة الدول ودعم الانقلابات العسكرية. والمفارقة أن يكون العام ١٩٤٨ الذي أشهرت فيه الأمم المتحدة إعلانها العالمي لحقوق الإنسان هو عام نكبة فلسطين الذي كان فاتحة لأفظع ألوان الانتهاكات لحقوق الإنسان وإبادة جماعية مستمرة. ومن تناقضات الأمم المتحدة الساخرة، في الشأن الفلسطيني مجدداً، أنها كانت الراعي لقرار التقسيم (١٨١) الذي صدر عن الجمعية العامة في ٢٩ نوفمبر من عام ١٩٤٧، ثم تأتي بعد ثلاثين عاماً لتجعل من التاريخ نفسه موعداً سنوياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني! تناقض قد يرى البعض فيه محاولة خجولة ورخيصة ومتأخرةً ثلاثين عاماً للتكفير عن ذنب يتفاقم كل يوم، أما أنا فما أراه إلا قتلاً للقتيل ومشياً في جنازته.

السؤال الذي ينبغي أن تطرحه بشفافية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة هو: أين الأمم المتحدة؟ إن حضورها الباهت الأقرب إلى الغياب في أكثر أحداث الساعة عنفاً كالحرب على أوكرانيا والحرب في اليمن وسوريا يشي بأنها مستبعدة أو مختطفة بطريقة ما. وهذا يدفعنا لمراجعة الطريقة التي تأسست بها المنظمة، والتي تضمن عدم تساوي الأطراف، وتكرس الهيمنة عبر مجلس الأمن الذي يمنح حق النقض لخمس دول تتمتع بتحريك خيوط لعبة الأمم، بينما تتحول الجمعية العامة إلى ناد للخطابة أو «هايد بارك» كما وصفها القذافي في خطابه الشهير. ونحن إذ نتحدث عن إخفاقات الأمم المتحدة فإننا نعني بالضرورة إخفاق الأعضاء التي تَشغل هذا الجسد الدولي وتعطل حيويته. فتوجيه سهام النقد مباشرة إلى الأمم المتحدة يبقى أشبه بمحاولة طعن جسد وهمي إذا لم يُعنى هذا النقد بمواجهة الدول المنضوية تحت لواء هذه المنظمة الدولية العريقة، خاصة تلك المهيمنة على سوق العالم السياسية في مجلس الأمن.

لا شك أن هناك حالة من الإحباط تتفشى داخل أروقة المنظمة، وهي تطال بصورة واضحة منصب الأمين العام، المَقعد الأعلى في هرم المنظمة الذي يجلس عليه حالياً البرتغالي أنطونيو غوتيريش. ولم يصدر هذا الإحباط إلا عن عقم سياسي راكمته عقود من الفشل في حل الحروب والنزاعات في أحزمة ساخنة من الجغرافيا الدولية. وبدا كما لو أن الخبرة الطويلة في تاريخ دبلوماسية الأمم المتحدة توصلت منذ زمن إلى اكتشاف حدود إمكانياتها التي تصطدم في نهاية المطاف بحسابات الدول المعنية بالصراعات هنا أو هناك، وسرعان ما يتثاقل عمل المبعوث الأممي باشتباكه مع خيوط العنكبوت التي تنسجها السياسات الالتفافية للدول، كما حدث قبل عامين عندما أعلن المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة استقالته، حيث كان بوسع الأمم المتحدة أن تلعب دوراً تاريخياً للتوصل إلى وفاق وطني ينهي الأزمة الليبية، بوصفها الطرف الوحيد الذي لا يُعنى بأية مصالح اقتصادية في ليبيا، إلا أن هشاشة دورها جعل من الساحة الليبية ملعبا للتنافس بين أميركا وفرنسا وإيطاليا وتركيا ومصر وغيرها من الدول.

لم تمنع الأمم المتحدة شهوة الطغيان السياسي والحروب. فمن المغالطة المنطقية القول بأنها نجحت عن طريق الدبلوماسية في إيقاف المعجنة العراقية الإيرانية مثلا، أو في دفع القوات السوفييتية للانسحاب من أفغانستان وإنهاء الحرب الأهلية في السلفادور. هذه أمثلة تحتفي بها الأمم المتحدة كإنجازات باستمرار، غير أنها لا تشهد لصالح المنظمة بل تشهد على عجزها، فميثاق الأمم المتحدة لم يُؤسس ليكون مجرد مخرج طوارئ للدول التي تجد نفسها في حروب استنزاف طويلة الأمد حتى تعيا بتكاليف الحرب وتركن مرغمة إلى السلم بوساطة الأمم المتحدة. هذا دور هزيل للغاية يمكن أن تلعبه أي دولة وسيطة وليس الأمم المتحدة.

وأخيراً، أرى أن الأمم المتحدة حُلم عالمي لا يمكن التخلي عنه أو تركه مختطفاً، بل يجب استعادته عبر ثورة داخلية، لا لتحويله إلى دولة جديدة، بل ليكون القبة التي تصون الحريات وتحمي الأفراد من استبداد الدولة.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني