أوروبا.. وشبح الحرب الباردة!
الديمقراطية الغربية اليوم في أوروبا تشهد اختبارًا عسيرًا لم تعرفه منذ الحرب الباردة. ذلك أن تطورات الأوضاع التي باتت تهدد العالم جميعًا على وقع الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تتصل اليوم بأكثر من ملف يجعلها على ذلك النحو من الاهتمام العالمي.
فعبر حدود الطاقة (النفط والغاز) تقع أوروبا في محيط الحاجة الدائمة إلى غاز روسيا ونفطها، حيث إن 40% من حاجة أوروبا للغاز مصدرها روسيا، وهي خطوط طاقة تمر إلى غرب أوروبا وشمالها عبر الأراضي الأوكرانية مما يجعل الأمر على نحو بالغ من التعقيد.
ولعل السؤال الذي سيفرض نفسه هو: كيف أمكن لأوروبا التي قطعت مع الاستبداد والديكتاتورية منذ الحرب العالمية الثانية بهزيمة النازية والفاشية في كل من ألمانيا وإيطاليا، ألا تتوقع مآلات قد تفرضها، في نهاية المطاف، وعلى نحو استراتيجي، عاقبة تحالفاتها المؤقتة مع توتاليتارية ستالين حين لم يكن بوسع أوروبا وأمريكا خلال الحرب العالمية الثانية إلا التحالف مع الشر الأصغر لهزيمة الشر الأكبر المتمثل في النازية؟ ورغم خطوط الحرب الباردة التي تساكنت فيها أوروبا مع جوار توتاليتاري كالاتحاد السوفييتي، وانقسمت دولها نتيجة لثمن السلم العالمي بعد فظاعات الحرب العالمية الثانية، كان من الواضح أن العواقب الاستراتيجية في المستقبل البعيد للجوار التوتاليتاري على أوروبا كائنة لا محالة! اليوم، هل يمكننا القول: إن ظاهرة بوتين الذي يريد أن يجتاح أوكرانيا في ظرف بالغ التعقيد ووسط تداعيات خطيرة محتملة على أوروبا كلها، هل يمكن القول إن لحظة بوتين هذه هي لحظة المستقبل التي لابد أن تكون كثمن متأخر لتحالف الحلفاء المؤقت في الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفييتي؟ ذلك أن المتغيرات الهائلة التي طرأت على عالمنا اليوم، بفعل ثورة المعلوماتية والاتصال وظاهرة العولمة، ربما ظن معها كثيرون أن القطع مع جنون كوني كالحرب العالمية الثانية أصبح جزءا من عالم ما قبل الحرب الباردة، بالرغم أن ما أدى إلى انهيار الحرب الباردة هو الانتصار المغري لنمط الحياة الرأسمالي الليبرالي كما تجسد في الولايات المتحدة وغرب أوروبا.
ومن خلال التوسع الذي ظل مزدهرا باستمرار لصالح حلف الناتو (بعد انهيار حلف وارسو وحتى وارسو أصبح هواؤها غريبا) بانضمام دول كثيرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى الحلف وكذلك إلى الاتحاد الأوروبي، أصبحت هزيمة المعسكر الاشتراكي كما لو أنها هزيمة فقط لروسيا التي أصبح همها -بعد نهاية الحرب الباردة- محصوراً في محاولات مستحيلة منها لوقف حلف الناتو بعيدا عن حدودها.
وفي تقديرنا أن التمثيلات الغربية للحداثة والرفاهية ونمط الحياة الحر كان هو أكبر الضربات التي سددتها الولايات المتحدة وحلفاؤها للاتحاد السوفييتي (اقرأ روسيا) وهي عناصر جذب مغرية ولا تقاوم أبدًا، لأنها تتصل بطريقة حرة في الحياة ترغب فيها المجتمعات التي كانت تعيش في ظل الاتحاد السوفييتي.
وإزاء جذب مغرٍ كهذا، حاولت روسيا أن تستبقي محيطا تحافظ على أن يكون دائرا في فكلها (ولو عبر الإيهام بالمصالح المشتركة) لتمنع تمدد الناتو والاتحاد الأوروبي إلى حديقتها الخلفية. دون جدوى! لكن الانجراف الكبير لدول البلطيق ودول شرق أوروبا نحو الانضمام إلى الناتو وإلى الاتحاد الأوروبي رغبة من تلك الدول في نمط حياة غربية حرة، هو الذي فجر بقايا الغضب المتراكم منذ نهاية الحرب الباردة في ضمير روسيا والرئيس بوتين الذي كان من أهم الذين شهدوا كيف ينهار الاتحاد السوفييتي أمام عينه عندما كان ضابط استخبارات نشط في ألمانيا الشرقية! اليوم حان استحقاق تصفية حسابات التقاطع الحاد بين بقايا التوتاليتارية في قضية أوكرانيا، وأصبح الغرب أمام معركة مؤجلة مع بقايا حليف توتاليتاري منذ الحرب العالمية الثانية، فهل يترك الغرب أوكرانيا لقمة سائغة لبوتين، كما ترك رئيس وزراء بريطانيا نهاية الثلاثينيات نيفيل تشمبرلين بولندا لقمة سائغة لهتلر الذي أغراه ذلك التغافل من بريطانيا بابتلاع أوروبا كلها بعد ذلك؟ هكذا، فيما تخيّم اليوم أجواء الحرب الباردة على العالم، بحسب محللين سياسيين، يمكن القول إن ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا خطير، وهو الجزء الكامن من بقايا تلك الحرب، برز إلى السطح في لحظة حرجة فوضع الغرب وروسيا أمام اختبار جديد / قديم في زمن بدا أكثر تعقيدًا في حساباته وتقاطعاته وتحدياته، عن زمن الحرب العالمية الثانية!