أوروبا: من مركز للعالم إلى محيط
ظلت أوروبا مركزا للعالـم الحديث لقرون أربعة متتالية؛ منذ مطالع القرن السادس عشر حتى ثلاثينيات القرن العشرين. ظلت مركزا للمعارف والعلوم والثورات الثقافية المتعاقبة، وبالتالي، مصدرا للنظريات والأفكار الكبرى التي غيرت مصائر العالم والتاريخ بعد تغيير الذهنيات واليقينيات الفكرية التي تراكمت عبر آلاف السنين. ولقد كانت الثورات العلمية الهائلة، بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وعصر الأنوار والموسوعيين الكبار، في القرن التاسع عشر، أظهر تلك الظواهر المعرفية التي أنجبتها أوروبا ونشرتها في العالم بعد أن فاض نفوذها عليه حين خروج دولها من نطاق حدودها القومية...؛
وظلت، ثانيا، مركزا للثروة والاقتصاد والتجارة والمال في العالم؛ فهي مهد الثورة الصناعية، والنظام الرأسمالي، والنظام البنكي، والزراعات الحديثة؛ وهي منبع الطفرات التكنولوجية الهائلة التي شهد عليها العالم منذ عصر البخار حتى بداية ظهور «الإنسان الآلي». وبهذه القدرة الاقتصادية والصناعية الهائلة أمكن أوروبا أن تسود العالم وتحوله إلى سوق لمنتوجاتها، خاصة وأن الصناعة هذه وفرت لأوروبا - في جملة ما وفرته لها - إمكانات غير مسبوقة لإنتاج الأسلحة وتطوير التصنيع العسكري، على النحو الذي ضمنت به جيوشها التفـوق في أي مواجهة تخوضها...؛
وظلت، ثالثا، مركز السياسة والقرار السياسي في العالم، منذ إنجازها ثوراتها السياسية في القرن الثامن عشر، وصيرورة دول منها (بريطانيا، فرنسا، النمسا...) إمبراطوريات ذات نفوذ ضارب، إلى ما بعد مؤتمر باريس في أعقاب الحرب العالمية الأولى. بل لقد استمر نفوذها السياسي في العالم - وإن لم تعد مركزا له - حتى بعد الحرب العالمية الثانية وتكرس التعبير عنه في نظام الأمم المتحدة (العضوية الدائمة في مجلس الأمن لكل من بريطانيا وفرنسا). ولقد مر على العالم حين من الدهر كان معظمه واقعا في قبضة الحكم العسكري الاستعماري للأوروبيين (إنڱليز، وفرنسيين، وإسپان، وبرتغاليين، وإيطاليين، وهولنديين، وبلجيك...)؛ وهو أعلى القرائن على ما حظيت به أوروبا من مركزية في العالم قبل ثلاثة أرباع القرن...؛
ثم ظلت، رابعا، مركز القوة العسكرية الاستراتيجية في العالم، منذ اختراع السلاح الناري إلى إنتاج القنبلة النووية (الذي انتهى به عهد أوروبا في العالم). الجيوش الجرارة الوحيدة التي كانت تجوب العالم وتطبق سيطرتها عليه هي جيوشها؛ والأساطيل التي كانت تقطع البحار والمحيطات وتنزل الجيوش في المستعمرات أساطيلها؛ وهي من احتكر، طويلا، صناعة الأسلحة وتفنن فيها: من البنادق والبنادق الرشاشة حتى الطائرات الحربية والصواريخ بعيدة المدى، مرورا بالقنابل والقذائف والدبابات والمدرعات...إلخ. لا عجب، إذن، في أن تحكم العالم بقبضة من حديد لمدى قرنين ونصف من الزمان، وأن يبلغ بها جنون القوة والصراع على النفوذ في العالم حد خوض حربين عالميتين مهولتين في النصف الأول من القرن الماضي كانتا بنتائجهما - قطعا - بداية النهاية لعصر سيطرتها وتفـوقها.
ذلك تاريخ استثنائي عـز فيه على أحد أن ينافس أوروبا أو يزاحمها على دور أو نفوذ؛ فلقد كانت وحدها المنتصر في معركة الانتقال العسير من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. ومع أن فقدانها تلك المركزية التي كانت لها في النظام الدولي (خاصة لبريطانيا وفرنسا وبعدهما، ألمانيا) هو مما ينتمي إلى طبائع التطور وقوانين التاريخ، التي تقضي بالتغيـر والتحول؛ وهو ما ذاقته إمبراطوريات وقوى عظمى في التاريخ؛ من الإمبراطوريتين الرومانية والعربية - الإسلامية إلى القوتين الاستعماريتين الكبيرتين الإسپانية والبرتغالية (بين القرنين السادس عشر والثامن عشر)، إلا أن لدول أوروبا نفسها ضلعا في إضعاف مركزها ودهورة أسباب قوتها وتفوقها، بأخطائها القاتلة التي وقعت فيها سياساتها، والتي سرعان ما وجدت قوى دولية جديدة صاعدة أحسنت استثمارها لصالح تعظيم قواها وإحداث المزيد من إضعاف أوروبا وتهشيش موقعها.
وما من شك في أن أضخم تلك الأخطاء السياسية، التي ارتكبتها وجرت عليها الانزلاق السريع إلى مسار انحداري مروع، هي حروبها التي شنتها على بعضها على مدى نيف وثلاثين عاما فاصلة بين بداية الحرب العالمية الأولى (1914) ونهاية الحرب العالمية الثانية (1945) لإلحاق الهزيمة بألمانيا وتحجـيم قـوتها، واقتسام النـفوذ بين بريطانـيا وفرنسا في أوروبا، أو - من جهـة ألمانيا - للثـأر من الهزيمة وشروط مؤتمر باريس المجحفة، والتنكيل بالدولتين وإعادة النظر في خرائط النفوذ. وأيا تكن أهداف أطراف الحرب الأوروبيين وحساباتهم، فإن النتيجة أن الحربين الكبيرتين استنزفتا دول أوروبا جميعها: دمرتا اقتصاداتها ومقدراتها؛ وأرهقتا ماليتها؛ واستنزفتا جيوشها بشريا وعسكريا؛ وعطلتا الإنتاج ودفعتا رؤوس الأموال إلى النزوح خارج أوروبا (إلى الولايات المتحدة أو إلى المستعمرات)؛ وضربتا النظام التعليمي والجامعي ونظام البحث العلمي وأتـتـا على الخبرة العلمية بالنزيف، لاضطرار آلاف من خيرة الكفاءات العلمية والجامعية إلى الهجرة من أوروبا إلى الولايات المتحدة هربا من الحرب...؛ وأخيرا - لا آخـرا - دقتـا أكثر من إسفين في جدار العلاقة بين دولها.
لم تكن أوروبا قد توقفت عن كل شيء (الإنتاج، التنمية العلمية، بناء القوة...) في تلك الأعوام الثلاثين العجاف، فحسب، بل هي دمرت فيها ما كانت قد ابتنته لنفسها في قرون. لا عجب، إذن، إن كانت قد صحت فجأة - بعد 1945- على واقع عالمي جديد وعلى قوى جديدة أكبر فيه؛ ولا إن كانت أول أثمان حربها التي دفعتها، مكرهة، هي بداية خروج قواها الاستعمارية الست من مستعمراتها في آسيا وأفريقيا و، بالتالي، فقدان نفوذها في مناطق عدة من العالم، بالتلازم مع حلول قوى جديدة محلها ملأت فراغها؛ فلقد بلغ بها الإعياء الاستراتيجي حدا لم تعد معه قادرة على أكثر من إعادة بناء قواها المدمرة بأياديها!
هكذا ستنتقل أوروبا، منذ ذلك الحين من منتصف القرن العشرين، من مركز للعالم يديره ويحكمه إلى محيط لمراكز جديدة فيه باتت هي التي تقرر مصائره؛ سياسيا وعسكريا واقتصاديا. هكذا اقتسمت القوتان العظميان (الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي) أوروبا، فألحقت كل منهما شطرا منها إليها. ولم تتغير الحال اليوم، بعد نهاية الحرب الباردة ووحدة شطري أوروبا؛ ظلت أوروبا ساحة تتلقى فعـل القوى الثلاث الكبرى في النظام الدولي: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا... وربما الهند والبرازيل غدا.