أوبئة المعلومات والمناعة المجتمعية المعلوماتية
رغم أن مصطلح «الوباء المعلوماتي» ليس بمصطلح حديث، ولكنه ظهر في أواخر القرن الفائت مع توسع استخدام الشبكة المعلوماتية، وزيادة الفعل البشري غير المركزي في أنشطة الشبكة، ودخول الفاعلين الاجتماعيين باختلاف مراكزهم المعرفية والجغرافية والعمرية في معادلة صناعة المادة المعلوماتية، إلا أن هذا المصطلح عاد للظهور بقوة بحلول جائحة كورونا (كوفيد 19) في إشارة إلى الانتشار غير المسبوق وغير المحكم للمعلومات والبيانات غير (المصفاة) حول قضية معينة، بحيث يمكن أن تحتمل هذه المعلومات والبيانات أنماط مضللة، أو غير دقيقة، أو غير مبنية بناء علمي محكم، أو شائعات، أو استردادات تاريخية غير مقاسة، أو غيرها من أنماط التضليل التي قد تحمل عليها مادة التداول، ويحكمها سمة الانتشار السريع، وتعدد المنصات، وصعوبة ضبط المصدر، وكرة الثلج المتحركة في بناء المعلومة وإمكانية خلق ما يسميه عالم الاجتماع بيير بورديو (الواقع المفرط hyper reality). وهو ما استدعى منظمة الصحة العالمية على سبيل المثال مع بدائة الجائحة إلى مراكمة عديد النشرات والأدلة والوثائق حول ما سمته «التنقل في عالم الوباء المعلوماتي» وحددت في أدلتها للأفراد سبع نصائح أساسية لتعزيز ما يمكن أن نسميه «المناعة المعلوماتية» وهي (تحر المصدر – لا تكتف بالعناوين – تعرف على الكاتب – تحقق من التاريخ – تفحص الأدلة الداعمة – تحقق من تحيزاتك – اسأل خبراء تحري صحة المعلومات).
هذا الأمر قد يكون على المستويات الفردية، ولكن الضرورات التي يفرضها عالم اليوم بمخاطره وتحولاته سواء على مستوى أنظمة الاقتصاد وما تفرزه من مخاطر مجتمعية، أو على مستوى النظم البيئية وما تفرزه من مخاطر طبيعية واقتصادية ومعيشية، أو على مستوى النظم السياسية وما ينتج عنها من تأزمات وتحولات، أصبح يتوجب على الدول إيجاد خطط واستراتيجيات واضحة لإدارة الشأن المعلوماتي، وهذه الخطط تتجاوز في مضامينها فكرة (المتحدث الرسمي) أو (الجهة المرجعية للبيانات) أو (وسائل الإعلام الرسمية) إلى فكرة تأهيل المجتمعات وبناءها معلوماتيًا ونقديًا في سبيل تعزيز حصانتها المعلوماتية ومنعتها تجاه التضليل والتلاعب بالوعي العام، ونفترض أن هذا السياق يستدعي تضافر للجهور في قطاعات التعليم العام، ومؤسسات المثاقفة العامة، ووسائل الإعلام باختلاف مستوياتها، بالإضافة إلى مختلف تنشئة الوعي المجتمعي. وبالعودة إلى أزمنة الجائحة فقد سلطت عديد الدراسات خلال هذين العامين الضوء على قضايا الجدل المعلوماتي وانتشار البيانات حول الجائحة، فعلى سبيل المثال حققت دراسة «What social media told us in the time of COVID-19: a scoping review» لمجموعة من الباحثين في 81 دراسة تناولت مدى انتشار المعلومات الخاطئة أو المعلومات التي لا يمكن التحقق منها حول جائحة COVID-19 على Twitter من بين هذه الدراسات دراسة حللت 673 تغريدة باللغة الإنجليزية. وأظهرت نتائجهم أن المعلومات المضللة تمثل 8٪ حتى من التغريدات التي تظهر كونها جادة (أي المشاركات غير المتعلقة بالفكاهة)، وكشفت كذلك عن أنه حتى في حالة حسابات تهتم بالرعاية الصحية أو الصحة العامة كانت تحتوي ما مجمله 3% من التغريدات المضمنة بعض المعلومات الخاطئة. وهو ما يدفعنا للقول أن المسألة ليست فقط في الوسيلة التي تنتشر فيها المعلومات أو البيانات المضللة وإنما هي كامنة في الطرق التي تقدم بها هذه المعلومات، والخلفيات العامة للمؤسسات أو الأفراد الذين يقومون بتقديمها ومدى مقبوليتهم وانتشارهم اجتماعيًا، ومدى القدرة على تضمين بعض أدوات التحقق الظاهرية التي قد تدعم صحة هذه المعلومات.
لقد أصبحت مسألة إدماج استراتيجيات الاستجابة المعلوماتية عنصرًا مهمًا من عناصر تقييم السياسات الحكومية في أوقات الأزمات، وأضحت الطريقة التي تستطيع من خلالها الدول ضبط اتساق البيانات والمعلومات ومصادرها والحد من أنشطة وممارسات التضليل وضبط الفضاء المعلوماتي العام بعد من أبعاد نجاح منظومة إدارة أية أزمة، وليس أقرب لذلك من المؤشر الذي اقترحه مشروع OxCGRT لقياس صرامة السياسات الحكومية في مواجهة جائحة كورونا (كوفيد 19) والذي تناول تسعة محكات أساسية للتقييم هي: (إغلاق المدارس، إغلاق أماكن العمل، إلغاء الأحداث العامة، قيود على التجمعات العامة، إغلاق وسائل النقل العام، متطلبات البقاء في المنزل، حملات إعلامية عامة، قيود على الحركات الداخلية، وضوابط السفر الدولية». والملاحظ في تقرير المشروع أن مسألة الحملات الإعلامية ضمنت تقييم آليات الاستجابة لمكافحة المعلومات والشائعات والبيانات المضللة، وقد جاءت فيه السلطنة ثانيًا من حيث الصرامة بمقدار 51.85 على مقياس المؤشر، وقد يعود ذلك إلى عدة اعتبارات منها تخصيص حسابات رسمية لمنظومة إدارة الجائحة، وتحديد وقت لمؤتمر صحافي للحديث عن مستجدات السياسات والإجراءات، وسرعة الاستجابة لدحض الشائعات، واتساق رسالة الإعلام العام والخاص، بالإضافة إلى معرفة الأوقات المناسبة لإدماج المختصين الصحيين في منظومة التواصل الرسمي حول الجائحة.
إذن لماذا الحديث الآن عن مسألة «الوباء المعلوماتي» واختصار القول أن هذا الوباء سيصبح على المدى القريب نمط ملازم لكافة الأزمات والمشكلات التي تعيشها المجتمعات البشرية، خصوصًا مع اتساع دوائر التواصل، والقدرات المهولة على التأثير والاقناع، والابتكارية في الرسالة المعلوماتية، وبروز فاعلين قريبين معرفيًا وعمريًا وثقافيًا واجتماعيًا من مختلف شرائح المجتمع قادرين على التأثير في الوعي العام خارج إطار منظومة الفعل الرسمي، الأمر الذي يستدعي في تقديرنا إيجاد استراتيجيات متسقة لتعزيز «المناعة المعلوماتية» وهذه الاستراتيجيات قد تكون على مستوى وطني مركزي، وعلى مستوى مؤسساتي، وعلى مستوى ظرفي متعلق بالأحداث والتداعيات والمجريات التي تطرأ، ولكنها في كل الأحوال ينبغي أن تراعي حسب تقديرنا خمسة اعتبارات أساسية:
1.إدراك تحيزات المجتمع المتحول.
2.الأخذ في الاعتبار حالة اللايقين التي تمر فيها المجتمعات في أزمنة الأزمات.
3.الشفافية والاتساق وتوليد البيانات والمعلومات في قوالب مفهومة وموجزة.
4.إدماج مقاربات العلوم الإنسانية في تصميم الرسالة الإعلامية الحاملة للبيانات والمعلومات.
5. القدرة على ضبط تعدد (الفاعلين المعلوماتيين).