أنماط الشـرعيـات السياسيـة
تختلف الشرعيات السياسية التي تستند إليها كل سلطة باختلاف الشروط المجتمعية التي انبثقت منها السلطة، وباختلاف الثقافة السياسية للنخب الحاكمة في هذا المجتمع وذاك. المجتمع الذي نشأت فيه سلطةٌ بعد تاريخ طويل من التراكم السياسي والخبرات وتعاقُب النخب... غيرُ المجتمع حديث الخبرة بالدولة ونظام الحكم؛ والبلد الذي قامت فيه سلطة بعد الاستقلال الوطني غيرُ البلد الذي لم يتعرّض للاحتلال؛ والاجتماعُ السياسي الذي يعاني ثقـلَ التقليد وتقوم علاقاتُه الاجتماعية على عوامل الاعتصاب، أو الولاء للعصبيات، غيرُ الاجتماع الذي شهد على أشكال متعدّدة من التَّبَـنْـيُـن الاجتماعي الطبقي...إلخ. ولكن هذه التباينات في الأسس المجتمعية التي تُحدِّد أنواع الشرعيـات السياسية لا تغيِّر، إطلاقًا، من حقيقة حاجة السلطة - كـلّ سلطة - إلى مقـدارٍ من الشرعية السياسية، قيامًا واعتمالًا ودوامًا؛ الشرعية التي لا تسمح بها القـوة، دائمًا، بل التي لا تكون - على الحقيقة - إلاّ عن طريق تَـنَكُّب السّلطة عن إِعمال القـوة والعنف والإعراض عنهما. وهذه حاجة يدركها جميعُ من يقومون على أمور السياسة والحكم، حتى السلطة التي تبدي مقدارًا زائدًا من البطش والتسلط تحتاج، هي أيضًا، إلى مقدارٍ ما من الشرعية يحسِّن صورتها في عيون المحكومين ويوفـر لها الحد الأدنى الضروري من المقبولية.
قد يكون مصدرُ الشرعيـة دينيـًا وقد يكون مدنـيًّا، ولكنّه قد يكون مزيجًا من هذا وذاك في بعض، ليس شاذًا، من أحواله. وقد ينزلق المصدرُ الديني إلى حيث يصير مذهبيًا خاصًا بفئةٍ لا بالجماعة رُمّـةً. وقد يكون المبدأ المدني للشرعية على صلةٍ بقضايا الأمة والوطن ووحدة الكيان، أو قد يكون على صلةٍ بنظام الحكم وقيم السياسة، مثلما قد يكون على صلةٍ بالتـنمية والبناء الاقتصادي وإجابة حاجات المواطنين، أو قد يكون على صلةٍ بمطالب العدالة الاجتماعية والتكافـؤ في الحقوق. وأخيرًا، قد تكون مصادر الشرعية تقليدية وقد تكون حديثة. من الواضح، إذن، أنّ خريطة الشرعية مركَّـبة لا بسيطة، وأنّ الفوارق بين الشرعيات مبْناها على نجاعة أيٍّ منها في حـلّ معضلات الاجتماع أكثر مما هي على المفاضلة بين شرعيةٍ وأخرى؛ إذِ الغالبُ على مثل هذه المفاضَلة أن يكون مرجعُها إلى نموذجٍ-مثالٍ: ذهنيّ أو واقعيّ يُبْتَغى تعميمُهُ وتصييرُهُ مثالاً مرجعيّاً!
نَعْـلَم، على التحقيق، أنّ ماكس ڤـيبر قـدّم تصنيفًا مميزًا لأنواع الشرعيات في أنظمة الحكم، في الماضي وفي الحاضر؛ وأنّ تنميطَه Typology الشرعيات السياسية سار، سيرةً مشهورة، في الدراسات السياسية الدائرة في مجال علم الاجتماع السياسي، حتى أنه بات نمطيًا. مع ذلك، ما من أحدٍ يدرس الدولة والسلطة، في أي بلد، يملك أن يتجاهل نَمْذَجـة ڤـيبر الشهيرة تلك؛ فلقد كانت في الحين الذي صاغها فيه (قبل نيّفٍ ومائة عام) أعلى صور النَّمذجة تركيبًا. سنشير إليها، في إسراع، لا قصْد التعريف بها (فلقد فعلنا ذلك في كتابنا: الدولة، السلطة، الشرعية)، بل للانتقال منها إلى التشديد على شرعيات أخرى... لعلها ما كانت في حسبانه حين تناوَل المسألة.
شرعياتٌ ثـلاث هي تلك التي صنفها فـيبر ومَازَ بينها على أساسٍ معياري تفاضلي: تقليدية، وكاريزمية، وعقلانية. الشرعية التـقليدية؛ ويكون مَبْناها على الدّين أو على المَحْـتِد أو الأصل الاجتماعي (القبيلة، العشيرة، العائلة...)؛ وهي عنده تقليدية لأنّها منحدرة من أزمنةٍ تاريخية مضت، ولأنها الشكل الوحيد للشرعية الذي كان متاحًا في الماضي بينما يستمـر، اليوم، رغم تغيُّـر الظروف. والشرعية الكاريزميّة؛ ومبْناها على مكانة الزعيم الذي شَيَّـد زعامته على مآثـر (قيادة حركة التحرر، إنجاز ثورة، بناء دولة، تحقيق وحدة كيان الأمة...)؛ وهي - لهذا السبب - شرعية قد تكون وطنية أو ثورية أو وحدوية من طبيعةٍ أبويـة: أي تكرِّس الشخصية الكاريزمية أبًا للمجتمع والشعب. أما الشرعـية العـقلانية فمبْناها على قيمٍ سياسية حديثة مستمدة من العقل - لا من الدين والأصل والإلهام - من قبيل الحرية والدستور والديمقراطية، ولقد اختصرتْ عبارة الشرعية الديمقراطية التعبير عن مضمون هذا النوع الثالث - الفيبري- من الشرعية.
هذه، بإيجازٍ شديد، معطيات التصنيف الفيبريّ لأنواع الشرعيات. ومن الواضح أنه تصنيف يقع ضمن ما كان يسميه ڤـيبر في دراساته المختلفة، باستمرار، بالنموذج الذهني Ideal type؛ أي النموذج المُـرَكّب من عدد كبير من الحالات الجزئية الخاصة التي يُبْـحَث عن سماتها المشترَكة ثمّ يقع تجريدُها، أي الارتفاع بها إلى مستوى المفهوم النظري. ومن البيّن أنّنا لن نجد سلطةً تنطبق عليها تلك السمات جميعها المنسوبة إلى شرعيةٍ ما بعينها. هذه واحدة؛ الثانية أننا قد نعثر في التاريخ؛ أعني في الواقع السياسي، على سلطات عدة تَجْمع الواحدةُ منها بين سماتٍ من هذا النموذج وسمات من ذلك النموذج - طبعًا مع غلبة الواحدة من تلك السمات على أخرى - بحيث يتعسّر نسبتُها، حينها، إلى أيّ نمطٍ بعينه من أنماط الشرعية الثلاثة تلك أو، قـل، على نحوٍ يُحتاج معه إلى إدخال نمطٍ جديدٍ للشرعية تركيبي (= من نمطين أو ثلاثة) في جملة أنماط شرعية السلطة. هذا ما لم يتناوله ماكس فيبر في تصنيفه أنماطَ الشرعية، بل هذا ما لم يستوقفه مع أنه يتعلق بظاهرةٍ ملحوظة في تجارب السلطة في التاريخ: على الأقـل في العصر الحديث بما في ذلك في الفترة التي كتب فيها فيبر في المسألة.
غير أن الشرعية السياسية التي ذَهَـلت عنها النّمذجـةُ الفيبرية ولم تُـشِر إليها بما هي نمطٌ قائـمُ الذات هي شرعية الإنجاز. نعم، قد نعثر على فكرة الإنجاز مُبَعْـثَرةً هنا وهناك، في هذا النموذج وذاك، لكنّنا لا نعثر عليها في صورة نموذجٍ بذاته. لقد كان يمكن لمثل هذه الشرعية أن تعيد النظر في الكثير من الأحكام المعيارية (أحكام القيمة) في نمذجة ڤـيبر في ما لو اهتدى إلى إدراكها وتمييزها من غيرها.