أن تُقرر يعني أن تشعر
يشيع الاعتقاد أن العاطفية علة بشرية، وإنها ما يدفعهم لاتخاذ قرارات تضر بهم وبالآخرين: لو تخلص البشر من مشاعرهم فسيكونون أكثر منطقية، وسيكونون أكثر عملية.
يجادل - البيولوجي والباحث في علم الأعصاب - روبرت سابولسكي في كتابه Behave بعكس ذلك. يعتقد سابولسكي أن العواطف أساسية لصناعة القرار، غيابها قد لا يعني فقط اتخاذ قرارات أسوأ، بل تعذر اتخاذ القرارات في بعض الأحوال.
يُحدد علماء الأعصاب عادة الوظائف المرتبطة بكل منطقة من مناطق الدماغ عبر دراسة المرضى الذين يعانون من تلف في منطقة محددة، أو عبر مسوحات الدماغ أثناء أداء مهام معينة، وتبين المناطق النشطة، أو عبر التعطيل المؤقت لنشاط المناطق قيد الدراسة. جدير بالذكر أن تقسيمات الدماغ هذه ليست صارمة تماما، وأنها تتفاعل فيما بينها على نحو معقد وملتوٍ.
الفص الأمامي للدماغ غالبا ما يكون مسؤولا عن اتخاذ القرارات، إنه بمعنًا ما المكان الذي يتموضع فيه الوعي. هناك منطقتين مهمتين في الفص الأمامي للدماغ تُسمى الأولى dlPFC وسندعوها تسهيلا "الحتة العقلانية"، وهي كما يقترح اسمها الذي اخترناه تؤدي واجبات التفكير المنطقي، الإدراك، والنفعية. إنها الحتة التي تلح عليك بأن تؤجل قبول حبة المارشميلو إذا ما كانت مكافأة الانتظار حبتي مارشميلو. المنطقة الثانية المهمة هي vmPFC التي يمكن أن ندعوها "الحتة العاطفية"، وهي التي تؤثر عاطفيا على صناعة القرار، إنها تسأل حين توضع أمام قرار ما: بماذا سأشعر إذا ما حدثت النتيجة الآتية.
وهكذا يسهل الوقوع في فخ التفكير بأنه إذا ما عُطّلت هذه المنطقة في دماغ شخص ما، فإن ذلك سيجعله أكثر عملية، أكثر إنصافا، فهو بعد كل شيء متحرر من العواطف. المفاجأة تكمن في أن الشخص - على عكس ما قد نتوقع - يتخذ قرارات سيئة، بل أن بعض الأشخاص أمام بعض المواقف لا يعودون قادرين على اتخاذ أي قرار على الإطلاق!
والآن دعونا نفصل أبعاد تعطل هذه المنطقة:
1. اختلال الأحكام الأخلاقية، أو الخروج بقرارات لا تتوافق مع معظم الأعراف. فمثلا يختار الأشخاص الذين يعانون من تلف هذه المنطقة معاقبة شخص ما تسبب دون قصد في قتل شخص آخر، على معاقبة شخص ما حاول مع سبق الأصرار قتل شخص ما إذا ما فشل في المحاولة. ففي النهاية نتج عن الحالة الأولى قتل شخص، ولم ينتج عن الثانية أي وفيات. اهتمام هؤلاء الذين تتعطل لديهم "الحتة العاطفية" بالنتائج دون النظر إلى الدوافع الكامنة، تجعلهم يهملون تعقيد المسائل الأخلاقية، ويحاكمون المسائل متجاهلين المعطيات، ومركزين على النتائج النهائية وحدها.
2. الفشل في تغيير مواقفهم بناء على التغذية الراجعة السلبية. تخيل مثلا شكلا معدلا من معضلة السجينين التي لعلك سمعت بها. في هذه النسخة هناك لاعبين وجائزة. تكمن المهمة في توزيع الجائزة بين اللاعبين. يُقدم اللاعب الأول عرضا ما (لنقل 60% له و40% لغريمه) إذا قبل اللاعب الثاني العرض يحصل كل منهما على الحصة المتفق عليها، إذا رفض اللاعب الثاني العرض لا يحصل أي منهما على شيء. تخيل مثلا تقديم اللاعب الأول العرض التالي: 90% له و10% لغريمه. الآن 10% أفضل من لاشيء صحيح؟ لكن اللاعبين عادة ما يرفضون عرضا كهذا لإحساسهم بالغبن، مفضلين أن يخرج كلاهما صفرا. هذا ما يدفع اللاعب الأول لتغيير سلوكه نحو سلوك أكثر تعاونية في الشوط الثاني مقترحا عرضا أكثر عدلا لأنه يدري أن الآخر لن يقبل عرضا مجحفا، مما يؤدي لحصول اللاعب الثاني على مكافأة أكبر في نهاية اللعبة. ماذا نتوقع من اللاعبين الذين لا تعمل في أدمغتهم "الحتة العاطفية"؟ يختارون الخيار العقلاني ويقبلون الـ 10% لأنها أفضل من لاشيء.
3. الإقدام على ما هو غير لائق. كأن يُعلّقون على صديق لم يروه منذ فترة "يبدو أنك اكتسبت وزنا إضافيا"، وإذا ما لامهم أحد على التعليق غير اللائق هذا يبررون ذلك بالقول "لكنها الحقيقة!"
4. وأخيرا، سوء حكم فيما يتعلق باختيار الأصدقاء والشركاء.
عالم الأعصاب أنتونيو داماسيو، يجادل حول كون العواطف جزء لا يتجزأ من الوعي. يقول: "نحن لسنا آلات مفكرة، إننا آلات شاعرة حدث وأنها تفكر أيضا". العواطف ليست حكرا على البشر إنها عنصر بدائي نتشاركه مع جميع الفقاريات. شعور مثل الخوف تطور في الأصل كحاجة للبقاء، لتجنب المفترسات. المشاعر تقود الكائن الحي، حتى وإن لم يستطع منطقة سلوكه. المشاعر تحفزك لتفعل، إنها تجنبك الأخطار، تُسهل فهم الآخرين والتواصل معهم.
العواطف ليست شيئا زائدا عن الحاجة. العواطف تقرر وتقود على نحو فعّال. إنها تُعضد القرارات العقلانية، لكنها أيضا أداة إضافية، مصدر آخر يتجاوز ويسبق مرحلة التفكير والمنطقة. المشاعر أداة أداة تقييم وتثمين تعمل كطريق مختصر حين لا يسعفك الوقت لمعالجة كم هائل من البيانات، والنظر في كل المعطيات.
لعلنا جميعا مررنا بتجربة اختيار جهاز ما. إنك تنظر إلى الخواص والمميزات، تقرأ مقالات المختصين التي تقارن وتفاضل، وماذا تفعل في النهاية؟ إنك تتبع حدسك (صحيح إنه مدعوم باطلاعك) لكنك تتبع شعورك، لأنك تعلم أن القرارات العقلانية لا تضمن لا سعادتك ولا رضاك.
• نوف السعيدي كاتب وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم