أملنا نحو الحياد الصفري
ينشغل العالم بموضوع (الحياد الصفري للكربون) باعتباره أحد الموضوعات الملِّحة؛ فمع تزايد التحديات المناخية، وما يشهده العالم من كوارث طبيعية، وما يتسبب به من خلال العديد من الصناعات غير النظيفة، أصبح الكون وبالتالي الإنسان يعيش في خطر متزايد مع ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الانبعاثات، ولهذا فإن دول العالم تعمل في منظومات متوازنة من أجل تحقيق خطط التخفيف من آثار التغيرات المناخية بهدف الوصول للحياد الصفري، ولهذا فإن سلطنة عُمان من الدول التي أسهمت في برامج خفض انبعاثات الكربون من خلال مجموعة من الخطط والبرامج الوطنية التي تدعم أهداف البيئة والمُناخ، ولعل ما أعلن عنه قائد البلاد المفدى – حفظه الله ورعاه – بأن يكون العام 2050 عاما لتحقيق الحياد الصفري للكربون، يأتي ضمن تلك التوجهات التي تتبناها عُمان من أجل تحقيق الأهداف التنموية الاجتماعية والاقتصادية، فعلى الرغم من أن الدولة لا تُعاني بشكل كبير من تلك التحديات التي تواجه البيئة، بل لا تُسهم في انبعاثات الكربون كما دول العالم الأخرى، إلاَّ أنها ستتأثر بتداعيات هذه الأزمة العالمية، وبالتالي فإن أهمية التصدي لها والحد من آثارها، والتحوُّل نحو الطاقة النظيفة هو الحل للوصول إلى الحياد الصفري المنشود.
إن العام (2050) من الأعوام التي يتطلَّع إليها العالم باعتباره عاما لـ (تحقيق الحياد الصفري للكربون) على مستوى عالمي؛ فمنذ أن أعلنت الأمم المتحدة الخطة الخاصة بتغير المناخ في اتفاقية باريس في العام 2015، والعالم يعمل في منظومة متكاملة بهدف الحد من الانبعاثات، والتحوُّل نحو الطاقة النظيفة، والحد من ارتفاع درجات الحرارة للوصول بها إلى (1.5) درجة مئوية، الأمر الذي يكشف توجه عُمان في دعم الأهداف العالمية المشتركة، ورؤية الحكومة الرشيدة لأهمية الوصول إلى تحقيق الحياد الصفري في العام نفسه، والذي يتواكب مع مسيرة التطلعات الوطنية نحو الطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر. إنها تطلعات تنطلق من رؤية اجتماعية هدفها حماية أفراد المجتمع والتنمية الإنسانية، وتطوير المنظومة الحضرية، بما يتواكب مع التطورات التقنية والتكنولوجية من ناحية، وتحقيق الأهداف الاقتصادية وبالتالي الرفاه الاجتماعي من ناحية أخرى.
يخبرنا تقرير (الإبحار لمستقبل محايد للكربون. رؤية الحياد الصفري 2022)، الصادر عن شركة (PWC) في لندن، بالتعاون مع مؤسسات عدة، عن دور القطاعات المختلفة في التخفيف من تأثيرات الكربون والتسريع في إزالته، حيث يُنظر إلى تغير المناخ وما يرتبط به من تحديات باعتباره (أحد تحديات الاستدامة الأكثر إلحاحا) – بتعبير التقرير -، ولهذا فإن الجهود تتكامل على مستوى العالم من أجل (وقف ظاهرة الاحتباس الحراري)، و(الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة)، من أجل الوصول إلى تحقيق سيناريوهات الحياد الصفري التي ينشدها العالم عبر خططه الاستراتيجية والتنفيذية. إن تحقيق أهداف هذه التوجهات العالمية تتطلَّب تظافر الجهود من قِبل المجتمع والصناعات المساهمة في الانبعاثات.
وتحت عنوان (تغير المناخ ودور الصناعات المالية)، يُحدثنا التقرير عن تأثير تغير المناخ على الأنظمة الإيكولوجية، والتنوع البيولوجي؛ فالعالم يعيش (في عصر الاضطرابات) والكوارث المناخية، بحيث "تصل إلى حدود قدرتها على التكيف مع تغير المناخ" – على حد تعبير التقرير -، لهذا فإن فقدان التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية الصحية، سيؤثر بشكل مباشر على المجتمعات والاقتصادات. إن تزايد آثار تغير المناخ وانبعاثات الكربون وزيادة درجات الحرارة، لها تأثيرات اجتماعية كبيرة مثل زيادة معدلات الفقر وعدم المساواة خاصة في تلك البلدان ذات الكثافة السكانية العالية، إضافة إلى التوسع الحضري المستمر الذي يعتمد على الزحف السكاني، فضلا عن القضايا البيئية المتعلقة بـ (تدهور الأراضي والتلوث البحري، والصيد الجائر، وفقدان الموائل)، وانعكاسات ذلك كله على حياة الناس في المجتمع وبالتالي على مستوى المعيشة والتنمية المجتمعية.
لهذا فإن دور الصناعات المالية الذي يحدثنا عنه التقرير يتمثل في التكامل بين الرؤى البيئية والمالية، التي تقوم بدور رائد في توجيه تدفقات رأس المال، وهي (أدوات رئيسة في دعم الاقتصاد أثناء الانتقال إلى مستقبل مستدام والحياد الصفري، وبالتالي خلق تأثير إيجابي على الاقتصاد) – حسب التقرير -، ومع مراعاة البيئة الاجتماعية وعوامل الحوكمة، فإن التقرير يرى أن تعزيز (التمويل الأخضر) وحده لا يكفي إذا أردنا تحقيق الحياد الصفري، وإنما الشراكة على المستوى المالي والاجتماعي، بحيث يقوم المجتمع بدوره المأمول منه من ناحية، والاستمثار في الصناعات النظيفة من ناحية أخرى، حتى نصل إلى الحياد الصفري للكربون بحلول عام 2050.
إن تحقيق الحياد الصفري يتطلب من أفراد المجتمع العمل والمساهمة، فنحن نتحمَّل المسؤولية كما تتحملها الدول والمؤسسات، فمن أجل تحقيق استهلاك أكثر استدامة من الجميع، علينا أن نتَّبع أنماط حياتية تزيد من الاستدامة سواء في مجالات الطاقة، أو استخدام الأراضي، أو المباني، أو التنقل، وحتى مع تعاملنا مع الأنواع البيولوجية والطبيعية الأخرى، إضافة إلى تلك الإمكانات التي توفرها لنا التكنولوجيا وآفاق الابتكار المتنوعة التي تفتح للمجتمعات سبلا عدة لإيجاد وسائل طاقات بديلة نظيفة، تُساعد الدول والمؤسسات في الحفاظ على البيئة.
يقدم تقرير تغير المناخ 2022 (الآثار والتكيف والضعف)، الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) في الأمم المتحدة، تقييما شاملا للحالة الراهنة (للمعرفة بالآثار المرصودة والمخاطر المتوقعة لتغير المناخ، وكذلك خيارات التكيف)، كما يؤكد تلك الشراكات والتفاعلات الإيجابية المهمة بين (النُظم الطبيعية، والاجتماعية والمناخية)، وما تسبَّبت به الأنشطة البشرية من آثار ضارة على الطبيعة والمجتمعات، ولهذا فإن طموح التكيف تتوقف على مدى تفهُّم أفراد المجتمع والمؤسسات لأهمية التخفيف من الآثار السلبية لتغير المناخ وبالتالي الحد من الانبعاثات الضارة، إضافة إلى قدرته على المساهمة والمشاركة الفاعلة في الحفاظ على الموارد البيئية والطبيعية واختيار الأنشطة الصديقة للبيئة.
ولأن التغير المناخي مرتبط ارتباطا وثيقا بحياة المجتمعات وأنماط عيشها، فإن تقرير (IPCC)، يجمع بين سياقات (تعزيز الاستجابة العالمية لخطر تغير المناخ والتنمية المستدامة والجهود المبذولة للقضاء على الفقر)؛ ذلك لأن التغيرات البيئية وانبعاثات الكربون وما يتبعها من تصحر وتدهور للأراضي، والأمن الغذائي وتدفقات الغازات الدفيئة وغير ذلك، يتسبب في تغيرات مجتمعية في النُظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي والمجتمعات البشرية، وبالتالي على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي فإن (فقدان التنوع البيولوجي، والاستهلاك العام غير المستدام للموارد الطبيعية، وتدهور الأراضي ... والتوسع الحضري السريع والتحولات الديموغرافية البشرية، وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والوباء)، تكشف جميعها تلك المخاطر التي تُهدد المجتمعات ومستقبل استدامتها التنموية.
ولهذا فإن خيارات التخفيف والتكيف قائمة على قدرة المجتمعات – مؤسسات وأفراد – على المساهمة الفاعلة في التخفيف من الآثار والتقليل من المخاطر، بحيث يُقدِم على الخيارات التي تُعزِّز (قدرة الطبيعة والمجتمع على التكيف مع تغير المناخ المستمر)، والحفاظ على الموارد الطبيعية، وخيرات الأرض، وبالتالي قدرته على تحسين مستويات عيشه، فلا يمكن تحقيق الأهداف البيئية المأمولة ولا يمكن تحقيق الحياد الصفري للكربون بحلول العام 2050 سوى بوضع مجموعة مفاهيم نصب أعيننا وهي (التكيف، والقابلية للتأثر، والمرونة، والإنصاف، والعدالة، والتحوُّل) – حسب تقرير IPCC - ، وهي مفاهيم تربط بين الطموح التنموي الاجتماعي والاقتصادي، وقدرة المجتمعات على التعاون والشراكة من أجل تحقيق الحياد الصفري.
إن هدف الوصول إلى الحياد الصفري للكربون في العام 2050، أمل نسعى إليه من أجل أبنائنا، وليكن نصب أعيننا بأننا شركاء أساسيين في تحقيق هذا الهدف الإنساني، فلكي نحظى بالأمان والصحة والرفاه علينا أن نحافظ على مواردنا الطبيعية، وأن نختار الأنسب لبيئتا النظيفة المستدامة.