أمة في خطر: لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟

21 ديسمبر 2024
21 ديسمبر 2024

أثناء قراءتي لكتاب «لماذا العلم؟» للكاتب «جيمس تريفيل»، طرح مترجمُ الكتاب «شوقي جلال» في مقدمته تساؤلًا مهما مفاده: «لماذا تخلفنا وتقدّم غيرنا؟»، وأثار السؤال غريزتي المندفعة إلى تحقيق الذات، والتي تتحول في حالتها الجمعية إلى «تقدير المجموعة التي أنتمي إليها»، وسأعيد صياغة السؤال لأستبدل «تخلفنا» بـ«تأخرنا» لتكون أكثر تقبلا ولمراعاة مشاعرنا الكارهة للواقع. رغم تشعّب المشكلة وتعدد أسبابها ونتائجها المؤسفة؛ فإنه سبق أن جاءنا التحذير المبكّر لهذا التأخر من مجموعة من المفكّرين العرب والمستشرقين منهم المفكّر «أبو الحسن الندوي» في كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟»، وكتاب «What Went Wrong?: The Clash Between Islam and Modernity in the Middle East» «ما الخطأ الذي حدث؟: الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط» لمؤلفه «Bernard Lewis» «برنارد لويس»، ورغم ما يحويه الكتابان من تباين في الطرح والتوجهات، ولكنهما يصبّان في مصبٍ نقدي مهم يتعلق بانحدار حضاري تمر به الأمة العربية بخصوصها والأمة الإسلامية بشمولها، ولست بصدد إعادة ما تحويه مثل هذه الكتب من أطروحات؛ فيُرجع «برنارد لويس» مشكلة العرب والإسلام إلى الجذور العثمانية التي أحدثت خللا ثقافيا عبر إبعاد الإسلام عن ثقافته العربية التي ينتمي إليها، وخصوصا اللغة العربية، وهذه إشارة لم يغفل عنها مفكرون عرب ودعاة مثل الشيخ علي الطنطاوي كما ذكر في غير موضع عن هذا الخلل. في خط زمننا الحاضر، تنطق الأحداثُ عن حال الأمة العربية بلسان يقول إننا في مأزق حضاري ووجودي حاد؛ فتجاوزت مشكلة القضية الفلسطينية خطوطها الحمراء، واختلط الحابل بالنابل في الشأن السوري وثورته التي لا يمكن إنكار استغلالها بشكل كلي أو جزئي من قبل قوى خارجية على رأسهم إسرائيل التي أخذت في التوسّع الجغرافي وتدمير البنية العسكرية والعلمية والصناعية السورية، وتطال التهديداتُ دولا عربية أخرى؛ فنحن في واقع نحتاج فيه إلى مراجعة شاملة وعاجلة يُتبع بتصحيح المسار قبل أن نفقد كل شيء.

«أمة في خطر»، تقريرٌ صدر عن اللجنة الوطنية للتميز في التعليم في الولايات المتحدة في عام 1983م في عهد الرئيس الأمريكي «رونالد ريجين» بخصوص إصلاح منظومة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، وركّز التقريرُ على مخاوفَ كبيرةٍ تتعلق بحالة التعليم الأمريكي، وحذّر من تراجع مستويات النظام التعليمي في البلاد مقارنة بالمنافسين العالميين؛ فوصف التقريرُ أن هذا المستوى يشكّل تهديدًا للمستقبل الاقتصادي والثقافي للولايات المتحدة، وأشار التقريرُ بشكل صريح إلى أنه إذا كانت قوة أجنبية قد فرضت مثل هذا الانحدار في الأداء التعليمي؛ فيُعتبر ذلك عملًا عدائيًا يقتضي بأن يُصنّف بالخطير، وأوضح التقريرُ أن الأداءَ الأكاديمي للطلبة آخذٌ في التدهور على مدى العقود السابقة -التي سبقت إصدار التقرير-، وأن العديد من الطلبة يفتقرون إلى الكفاءة في المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم والقراءة. كذلك أشار إلى أن المناهج الدراسية في المدارس الثانوية بمستويات ضعيفة، وأن عددًا أقل من الطلبة يلتحقون بالدورات الدراسية الصعبة في الرياضيات والعلوم، وأضاف التقرير أن الولايات المتحدة تفقد تفوقها التنافسي في مجالات مثل العلوم والتقنية والابتكار نتيجة لنظام تعليمي متدهور وضعيف. استنادا إلى التجربة الأمريكية وتقريرها الذي يشبه تقاريرها الكثيرة المحذّرة من الصعود الصيني وخوفها من التقهقر الحضاري، يتبادر سؤالٌ مهمٌ عن حال تقاريرنا -إن وجدت- التي تشخّص مشكلاتنا الحضارية والوجودية، وعن خططنا في وضع مراجعة شاملة -لا تخص قطاع التعليم وحسب- لظاهرتنا الحضارية العربية والإسلامية بجميع عناصرها بما فيها التراثية والثقافية والسياسة والتعليمية والاقتصادية، ولا شك أن هذه المراجعة ستستدعي صياغةَ تقريرٍ بعنوان «أمة في مأزق»؛ إذ إننا تجاوزنا مرحلةَ الخطر؛ فأوشكت كثيرٌ من الأقطار العربية أن تكون في منطقة الانتكاسة الحضارية.

لا يمكن أن تنجحَ هذه المراجعة التي نحاول بواسطتها تحديد المشكلات وإيجاد حلولها دون أن نتخلص من ثقافة رفض النقد والركون في دائرة التزّكية التي تُعمي بصائرنا عن مشكلاتنا الحضارية المؤرقة، ولا يمكن أن نطلق التهم عبثًا دون الاستشهاد بمؤشرات واقعية أهمها الواقع السياسي في معظم الدول العربية التي تتناوشها الصراعات الداخلية وتفتك بها الحروبُ المدعومة من الخارج، وواقع الاقتصاد الذي إما أن يكون اقتصادا ريعيا هشا لا يعتمد الاقتصادات المبنية على الصناعة والابتكار والتقنية وإما اقتصادا لا يملكه أهله بل بيد آخرين، وكذلك الواقع التعليمي والثقافي الذي تؤكده الإحصاءات المتعلقة بنسب الأمية، ونسب معدلات القراءة، ونسب مؤشرات الابتكار والإبداع، والتأليف والترجمة، ويمكن أن نستعينَ بمثل هذه المؤشرات لتحدد لنا معوقاتنا الحضارية والأهم تحديد جذور هذه المعوقات، وقبلها لتؤكد لنا وجود المأزق والمشكلة؛ إذ يكفي أن ننظر إلى واقع الأمة العربية السياسي؛ فنجده غارقا في مستنقعات سياسية عميقة منها بسبب النفوذ الخارجي -الغربي- وطمعه في الهيمنة الاقتصادية والثروات الطبيعية؛ فساهم مع وجود الخلل السياسي الداخلي إلى إشعال نار الفتن الداخلية وإحداث فوضى قادت في كثير من حالاتها إلى سقوط أنظمة وقيام أنظمة وإلى تقسيم دول وتفكيك نسيجها الوطني عبر إخضاعه لتأثير الثغرات العرقية والمذهبية والدينية.

ولعلّ من السهل أن نحدد عام 2011م ذروة هذا الخلل السياسي الذي لم يكن ليحدث ويتفاقم لولا وجود الاستعداد الفكري والجذور المسببة، وهذا ما يمكن تشبيهه بالعلاقة الطردية بين وجود الخلل الجيني المسبّق والمسببات الخارجية في حدوث بعض الأمراض المزمنة والقاتلة، وهذا واقعُ كثيرٍ من الدول العربية التي تمتلك استعدادًا فكريًّا خاطئًا «موروثًا» -فيتحول إلى صور كثيرة مثل الاستبداد السياسي والانحراف الأخلاقي والتطرف الديني-؛ فيصبح فريسة سهلة للمستعمر وتدخله -عبر صوره الكثيرة أشهرها الاستعماري بأشكاله العسكرية أو الثقافية أو الاقتصادية، وهذا ما يقود إلى الانكماش الحضاري بصوره المتعددة أيضا؛ فتبدأ في تراجع مستويات الثقافة والتعليم القويّ، وضخ الأفكار المضللة سواء بصفة ثقافية أو سياسية أو دينية أو علمية؛ فتتماهى القيمُ المجتمعية الصميمة التي تعكس روح الهوية الدينية والثقافية بما فيها اللغة والوطنية. ومهما حاولنا أن نختصر المسألة في تحديد جذور مسببات المشكلات الحضارية الحالية فإننا نخضع عقولنا إلى دائرة المشكلة دون الخروج بحلول واضحة؛ فينطبق على حالنا «نسمع جعجعة ولا نرى طحنا». نسأل الله أن يوقظَ عقولنا وينيرَ دروبنا ويحيي حضارتنا ويحفظ أوطاننا، ويجعلنا من الذين يستمعون القولَ؛ فيتّبعون أحسنه.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني