أفواه الزمن !
عنوان المقال أعلاه، هو اسم رواية للكاتب والروائي الأورجوياني؛ "إداورد غاليانو" لكنه من المناسب أن يكون مدعاة للتأمل في مرور الأعوام التي فيما نحن نودعها بالطريقة ذاتها التي نودع بها سابقاتها، إلا أن مرورها، سنةً إثر سنة، ينطوي على متغيرات، كثيرة شخصية وعامة، لكننا في الغالب الأعم لن ندرك تلك المتغيرات إلا من خلال أحداث مفصلية فارقة.
مر الأعوام هو كمر الأيام، يعكس فينا متغيرات لا تني تؤثر على وجودنا الفردي الحادث، لكننا، على الأرجح، لا نتذكر ما يلفتنا إلى قوة الزمن وهو يجر عرباته الفولاذية على أجسادنا الفانية.
في كل عام – بل في كل يوم - نقص يعبره الجسد إلى الفناء، ولا ينبغي ألا يذكرنا هذا النقص بأحدوثة الزمن وقدرته على تغيير هويات الأشياء والبشر بالرغم من غموض معناه – أي الزمن – فمن حيث كوننا عالقين في ممر "الزمكان" سنجد أن الوعي وحده هو الذي يصحبنا ويعيد تذكيرنا بذواتنا المتغيرة في ذلك المجرى، بالرغم من أننا لكوننا بشرا، وفقط بهذا الوعي ذاته، سنعرف أننا، فيما نمر بذلك المجرى الزمني المحايث للمكان، ليس لنا قدرة على تغيير ثوابته أو التحكم بمفاجئات الزمكان ولحظاته المستقبلية القريبة والبعيدة!
إن مرور الأيام إذ يعيد تكرار الأعداد التي نراها تمر وتتجدد وتتضاعف أمامنا في حراك الزمن ليس سوى تذكير بالنقص الذي يمر بنا ويغيرنا، ومن ثم يلفتنا إلى حقيقة كلما تأملنا فيها عميقا رجح لدينا إدراك مفض بأن النقص الذي يلزمنا هو نقص من طينة العجز. فدخول الإنسان في شرط الزمان والمكان هو الوجه الآخر لكينونة العجز فيه، فحاجتنا (وهي حاجة مؤقتة بمقدار أعمارنا) إلى مقاومة مرور الزمان هي فقط تلك المتمثلة في قدرتنا على أن نمدد حياتنا في الزمان والمكان بأفعال الكائن المحتاج إلى الأشياء في وجوده العابر على الأرض، أي بفعل قدرته الحيوية على الأفعال المتجددة في ممارسة عادات الأكل والشرب كوسيلة لحفظ الحياة، وعادة التكاثر كوسيلة لحفظ النوع. لذلك حين نفى الله، سبحانه وتعالى، عن المسيح عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام، أن يكونا إلهين؛ قال:" مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ" فالتصريح بكونهما كائنين يأكلان الطعام أي يخضعان لإكراه الزمن، ينفي عنهما صفة الألوهية التي لا يعتريها نقص أبداً.
هويتنا داخل الزمن تعكس عنصرين للنفس الإنسانية؛ الروح والمادة، كما يعبر بالوعي الذي تملكه النفس الإنسانية بذاتها وبما حولها من الأشياء، عن حقائق كثيرة؛ منها أن النقص الأصلي للكينونة البشرية هو نقص يؤثر فيه الزمن إلى حد الإفناء، دون أن يكون ذلك الإفناء فناءً للنفس أو الروح، بقدر ما هو انتقال لها إلى طور آخر من أطوار الحياة!
يذكرنا الزمن ويغيرنا في الوقت نفسه. ومع مرور كل نهاية عام نستعيد رثاءً موسميا لحوادث العام الذي مر، ونسقط هواجسنا وأمنياتنا ومحاذيرنا التي نتصورها أو نتمناها في الزمن القادم/ العام القادم، لكن، قليلا ما يلفتنا مرور الأعوام إلى التفكير باستمرار في لغز الزمن وهويته الغامضة، وما إذا كان حركة للمكان، أو عرضا له!
قد لا نختبر، أبدا، كيفية فعل معاول الزمن في تغيير هويتنا الجسدية لكننا ندرك آثارها بحسرة كلما تقدم بنا العمر. فإذا كان الزمن من أعراض المكان فكيف يؤثر حتى في المكان ذاته! هذا سؤال من الممكن أن يطرحه من يتأمل في لغز الزمن.
وفي تقديرنا أن غموض حقائق الأشياء الواضحة في الوقت ذاته بوجهٍ من وجوهها، كالزمن، هو جزء لازم ووجه من وجوه عجز الإنسان عن معرفة حقائق الأشياء والأعراض وإن أدرك بعض ظواهرها وعلاماتها!
هل نحن من تجري ذاوتنا الفانية في نفق الأزمنة، أم الزمن هو الذي يجري فيها ويغيرها؟ أسئلة من هذا الضرب لا شك ستكون محيرةً للمتأمل فيها متى ما أدرك ذلك المتأمل أنه يتساءل عن معجزة إلهية أصبحت – فقط بحكم الإلف والعادة – كما لو أنها أمر طبيعي يمكن إدراك جميع عناصره!
نودع عاما ونستقبل آخر، بذات الاحتفاليات المعهودة ونظم الإدراك ذاتها، فيما نحن غافلون عما إذا كنا نحن الذين نتغير أم يغيرنا الزمن!