أزمة جونسون.. أم أزمة النظام السياسي البريطاني كله؟
يواجه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أسوأ أزمة سياسية له منذ وصوله إلي السلطة وسط دعوات تطالبه بالاستقالة الفورية من منصبه، انتقلت تلك الدعوات من المعارضة إلي صفوف حزبه الحاكم «المحافظين». الدعوة المباشرة لاستقالته جاءت بعد تكشف فضيحة إقامته وأعضاء في الحكومة حفلات فيها مخالطة بالمخالفة لكل القرارات التي فرضها هو نفسه على الشعب لمواجهة جائحة كورونا.
الأسوأ من ذلك أنه لم يكن صادقا مع البرلمان في البداية، وقال إنه لم يشارك في تجمعات مخالفة للتعليمات الاحترازية من كورونا، وعندما ثبت عدم صدقه أشار إلى أنها حفلة واحدة، لكن تقريرا حكوميا رسميا أثبت حدوث أكثر من١٢ تجمعا في مقر حكمه، وكلها شهدت استهتارا خطيرا.
أزمة جونسون تزيد حتى على مسألة افتقاده الثقة العامة بتضليله للبرلمان، وعن الانشقاق المتزايد الحاصل في صفوف حزبه وفريق موظفيه، وعن التراجع الواضح في شعبيته حتى عند الناخبين المحافظين أنفسهم الذين أعطوه أغلبية ساحقة غير مسبوقة قبل عامين ونصف تقريبا.
فالأزمة لها أسباب أخرى تتعلق بالسياسة الداخلية والسياسة الخارجية معا.
في السياسة الداخلية : أثبت تحقيق رسمي صدر قبل أيام إخفاق البرنامج الأساسي لجونسون والذي كان سببا في فوزه، وهو برنامج الحماية الاجتماعية لتضييق الفوارق بين المناطق البريطانية الفقيرة والمناطق الغنية وبين الفقراء والأغنياء والمعروف باسم«levelling up».
تحدث التحقيق عن فشل ذريع للبرنامج في تحقيق أهدافه وعن إهدار نحو سبعة مليارات جنيه من مخصصات صندوقين في تحقيق أهدافها واستمرار الفجوة المؤلمة بين المناطق والطبقات - بريطانيا هي الأعلى في عدم المساواة بين دول أوروبا الغربية-، وما زاد الطين بلة ومن مشاعر الإحباط الشعبي، من ناحية، هو اعتراف جونسون المتأخر أن ما قدمه للناخبين كمشروع انتخابي أساسي ووعد فيه بتحسين أحوالهم كان مجرد هيكل لبرنامج (Skeleton)، وأفكار عامة وليس خطة تفصيلية ومدروسة، ومن ناحية أخرى ما تكشف خلال هذا الأسبوع من أن وزير المالية «سوناك» اقتطع في الموازنة الجديدة أموالا كان الوزير المختص «جوف» يأمل في الحصول عليها لدفع البرنامج المتعثر إلى الأمام.
وفي السياسة الخارجية: وبالتحديد في الأزمة الأوكرانية الملتهبة، أوحت المواقف التصعيدية البريطانية الخاضعة تماما للمواقف الأمريكية - مقارنة بالمواقف المعتدلة والأقل تبعية لكل من ألمانيا وفرنسا من نفس الأزمة-، مثل قيامه بالتهديد بتجميد الأموال الروسية وإرسال قوات وأسلحة لأوكرانيا وزيارته لكييف، أوحت بأن جونسون يتصرف باندفاع لا يبالي فيه كثيرا بمخاطر اندلاع نزاع عسكري تكون روسيا طرفا فيه على أمن القارة العجوز وعلى إمدادات الطاقة الروسية لألمانيا ودول أوروبية أخرى، مما دفع الروس لأن ينظروا إلى فرنسا وألمانيا كأطراف يمكن التفاوض معها حول الأزمة، بينما وصفت مواقف لندن بالتخبط وهدر الوقت .
الأزمات الثلاث سواء تحطيمه للقدوة كزعيم سياسي بمخالفته لقواعد فرضها هو نفسه على الشعب، وكذبه على البرلمان وتضليله، أو تكشف الفشل الذريع للعمود الرئيسي لبرنامج الحكومة الانتخابي وهو برنامج «الحماية الاجتماعية لتضييق الفوارق المناطقية والطبقية»، المشار إليه وإخفاقات التعامل المتزن مع الأزمة الأوكرانية ليست في الحقيقة سوى صدى لأزمة هيكلية يعاني منها النظام السياسي البريطاني في العقدين الأخيرين من حكم المحافظين، وهي أزمة نتجت في جزء كبير منها من التمادي في تطبيق الليبرالية الاقتصادية وتزايد تركز الثروة في يد قلة محدودة من الأغنياء وتراجع مساهمة الطابع الإنتاجي خاصة الصناعي في الاقتصاد البريطاني لصالح القطاع المالي وقطاع الخدمات المتذبذبين، مما أدى إلى اختلالات تهدد بنية أعرق ديمقراطية في العالم .ويمكن إجمال تلك الاختلال في:
- اختلال أو فجوة ثقافية بين جيل شاب وأجيال قديمة «جيلية»، وفجوة بين المدينة والريف «مناطقية»، فالشباب وسكان المدن الكبيرة معولمون ولديهم ميول نحو الديمقراطية الاجتماعية وتقريب الفوارق الطبقية وليس لديهم نفس رهاب الأجانب أو السود أو المسلمين وثقتهم قليلة بالطبقة السياسية ومؤمنون بثقافة حقوق الإنسان ويتظاهرون بمئات الآلاف ضد التفرقة العنصرية تضامنا مع حركة «حياة السود مهمة» ومع الحق الفلسطيني ضد السياسات العنصرية الإسرائيلية.
وقد قدم التفاوت المذهل في تصويت الشباب وأهل المدن خاصة لندن وكل من إيرلندا واسكتلندا ضد البريكست وتصويت الأغلبية من كبار السن والمناطق الريفية لصالحه، نموذجا صارخا على هذه الفجوة المتزايدة.
- الانقسام الرأسي بين التيار الشعبوي المحافظ المتحالف مع جونسون وبين أو في مواجهة التيار الليبرالي الاجتماعي لنخبة الثقافة والفن البريطانية والجناح اليساري لحزب العمال وما تبقى من حزب الأحرار، ومعهم أيضا العدد المتزايد من العازفين عن التصويت انعداما لثقتهم في النظام السياسي وفي قدرته الراهنة على تحقيق إصلاح حقيقي عبر صندوق الانتخاب. وهو انقسام وإن لم يبلغ في المملكة المتحدة ما بلغه في الولايات المتحدة والذي وصل بممثلي الاتجاه الشعبوي إلى حد اقتحام مقر الكونجرس «الكابيتول» والمحاولة الفاشلة لمنع تنصيب الرئيس المنتخب إلا أن كل المؤشرات تذهب إلى أنه انقسام يتزايد مع الوقت ويعمقه هذا الاتجاه الشعبوي القومي للمحافظين وشخصية جونسون الذي يوصف بأنه «ترامب البريطاني».
- الانهيار الجزئي، ولكنه الخطير في نظام التعددية الحزبية فنظام الحزبين الكبيرين الذي عرفته بريطانيا يقترب مع الانهيار الحاصل في شعبية حزب العمال إلى نظام أشبه بهيمنة الحزب الواحد خاصة مع الانهيار الموازي لحزب الأحرار الذي كان يشكل رديفا مهما على الأقل كشريك في ائتلاف مع المحافظين (نموذج حكومة كاميرون الأولى)، ويكبح على الأقل الاندفاع الشعبوي الانعزالي للمحافظين.
- التباعد النفسي المتزايد بين مكونات المملكة المتحدة خاصة من قبل اسكتلندا وإيرلندا الشمالي، والذي جعل الأحزاب التي تمثل القومية الاسكتلندية أو الإيرلندية تتفوق في بلادها على الأحزاب العابرة للقوميات الأربعة المكونة للملكة، مثل أحزاب المحافظين والعمال، كما أحيا مقترحات الاستفتاء على الانفصال في اسكتلندا وهو ماحدا ببعض المتشائمين إلى القول إن وحدة المملكة المتحدة – بعد البريكست- لم تكن مهددة كما هي الآن تحت حكم جونسون.
الغريب أن هذه الاختلالات الهيكلية في النظام السياسي هي التي ترجح أن يفلت جونسون هذه المرة أيضا من السقوط، فكل منها يعطي جونسون فرصة للبقاء:
فإذا كان قد فقد ثقة معظم الشباب وأهالي المدن الكبيرة المعولمة فلديه قاعدة قوة في المناطق الريفية وكبار السن.
وإذا كان قد أصبح بسلوكه الترامبي مخجلا ثقافيا لأمة شكسبير خاصة بالنسبة لمعظم النخبة الثقافية والأكاديمية والفنية البريطانية التي ترى أن بريطانيا تشرشل، واتلي، وبرنارد شو، وراسل، تستحق وجها يمثل الأمة أفضل كثيرا من جونسون، فإن المحافظين الجدد المعادين للأجانب يقفون إلى جانبه خاصة مع نفوذ اليمين المتفوق تقليديا في وسائل الإعلام البريطانية في صحف مثل «التايمز»، و«التليجراف» وغيرها أو في شبكة «سكاي» التليفزيونية وحتي في «بي بي سي» نفسها في السنوات الأخيرة.
أما الانهيار الحزبي فهو أكبر اختلال يعمل لصالحه، فليس هناك حاليا زعيم بريطاني معارض له قيمة حقيقية عند الجمهور، وآخر زعيم معارض كان يتمتع بقاعدة شعبية موالية له بقوة حتى لو كانت قاعدة صغيرة كان جيريمي كوربين الزعيم اليساري السابق لحزب العمال، أما الزعيم الحالي للعمال كير ستارمر فهو يتبع سياسات يمينية لا تجعله بأي حال بديلا سياسيا للناخبين الذين يريدون حزبا حقيقيا للديمقراطية الاجتماعية، ولا تجعله كذلك بديلا شخصيا إذ أن أي مقارنة بينه وبين جونسون في الجاذبية الشخصية والقدرة علي مخاطبة الجمهور بخطاب عاطفي مقنع تصب كلها لصالح جونسون .
المفارقة التي قد يراها البعض مثيرة للسخرية السياسية ولكنها دليل على عدم وجود معارض حالي بديل هو أن من يطرح نفسه للعودة بعد غياب - وإن بشكل موارب- لينافس جونسون على الزعامة هو رئيس الوزراء الأسبق توني بلير الذي يحلم بالرجوع لـ«داوننج ستريت» رغم كوارث إدارته لغزو العراق .
لكن الأهم من الأحزاب الأخرى هو حزب المحافظين الحاكم نفسه، والذي بمقدوره إزاحة جونسون عن القيادة دون أن يخسر الحكم أو يضطر لإجراء انتخابات عامة مبكرة، لكنه عاجز عن ذلك لعدم وجود بديل مقنع في هذا الحزب العريق (علامة أخرى على الاختلال في النظام السياسي)، فالبدلاء من الملونين مثل وزير المالية أو وزيرة الداخلية غير مقنعين ومازالت بريطانيا نفسها غير مهيأة لاختيار رئيس وزراء ملون.
أما الوزراء ونواب الحزب من البيض مثل جوف وغيره فهم أقل بكثير من أن ينظر إليهم كقادة للبلد وليس لديهم حتى القدرة على تحدي جونسون.
هذا الإفلات المتوقع لجونسون من هذه الأزمة لا يمنع دون إدراك أن التغيير في هيكل النظام السياسي البريطاني لصالح الجيل الأحدث ولصالح طبقة سياسية جديدة قادم لا محالة وأن تفاعلاته غير الراضية عن السياسة والسياسيين الحاليين تختمر الآن بهدوء ولكن بتقدم مستمر.
• حسين عبدالغني صحفي وإعلامي مصري