"أحرق نفسه".. استجابات للقيم والمثل
"في السابع عشر من ديسمبر من العام 2011م، أقدم الشاب التونسي محمد البوعزيزي بإضرام النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه" – حسب المصدر – فمثلت هذه الحادثة الشرارة الأولى للحراك الشعبي الذي شهدته معظم الدول العربية، وأسفر عن ذلك الإطاحة بأكثر من حاكم عربي، وأرخت في أنفس الناس نقطة مضيئة لانتصار الذات، ليس يسيرا نسيانها، حيث تحتضنها الذاكرة الشعبية أكثر، فلا يتم الحديث عن بما سمي بـ "الربيع العربي" إلا وتستحضر حادثة البوعزيزي على صفحة المشهد. وفي الخامس والعشرين من فبراير المنصرم، "أضرم الجندي آرون بوشنل من سلاح الجو الأمريكي النار في نفسه، أمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأمريكية واشنطن"- حسب المصدر – احتجاجا على الحرب في غزة ومساندة دولته للكيان المحتل في إبادة الشعب الفلسطيني الأعزل، على مرأى ومسمع من العالم كله، دون أن يحرك ذلك الضمائر إن كانت تنبض بالحياة، إلا في القلة القليلة من النظم السياسية، أما في وجدان الشعوب فهي حاضرة وبقوة، ولكن الشعوب لا تملك القوة في إدارة المعركة؛ إلا من وراء حجاب.
وإذا كانت حادثة البوعزيزي جاءت، قبل كل شيء، لانتصار شخصي، فذلك لا يسقط عنه البعد الإنساني، إطلاقا، في لحظته تلك. وإذا كانت حادثة آرون بوشنل لانتصار إنساني مباشر – حيث كان يردد حتى آخر لحظة من عمره "فلسطين حرة" - فذلك أيضا لا يسقط عنه البعد الشخصي؛ حيث أقدم على ذلك بإرادته الكاملة دون أن يكون مدفوعا من قبل أي أحد كان، وفي كلا الحادثين انزوت الشخصنة، وتسامت في بعدها الأكبر، وإلا ما الذي حمل هذا الجندي الذي يبعد عن فلسطين عشرات الآلاف من الكيلو مترات، وعشرات الآلاف من استحضار القيم الإنسانية، على اعتبار أنه ينتمي إلى مجتمع مادي صرف، ومثلها من قيم العقيدة، على اعتبار أن فلسطين دولة إسلامية، وبالتالي؛ فإن كلا الحادثتين تعبران عن ظلم إنساني مشترك لا تزال نار النزعة الفردية المادية فيه هي المسيطرة عليه والمتشبثة به. وأن هذه النزعة الفردية لا تزال تستقوي بفضاعتها على كل المثل، والقيم الإنسانية التي يفترض أن تكون حاضرة، بغض النظر، إن كانت هذه القيم محافظ على تطبيقها بنظم وبمواثيق وطنية أو دولية متفق عليها، ومجمع على أهميتها بين أمم الأرض قاطبة، أو هي ممارسة فطرية؛ لا تحيد عنها النفس الإنسانية "قيد أنملة" لأنه لا يمكن الحياة بدونها، وذلك للحفاظ على الجنس الإنساني، واستمراريته في الحياة، ومعنى ذلك لا يمكن تجاوزها إلا من كان في قلبه مرض.
البوعزيزي انطلق من مجتمع، كما يفترض، مخضب بالود والتسامح، والمثل العليا لتماسه بمكونين مهمين هما: الدين والعروبة، وتتعضده مجموعة من العوامل الاجتماعية والأعراف والتقاليد وهي الداعمة لكل المثل الإنسانية. حيث يأتي في مقدمتها الدين الإسلامي الحنيف منبع كل القيم ومآلاتها إليه، فتتوزع عبر ممارسات يؤمن بأهميتها الجميع، وبسلوكيات لا يتنازل عنها الجميع، وبتضحيات من الوفادة والكرم وبذل النفس، ونصرة المظلوم، والانتصار للقريب والبعيد، ومن النخوة العربية، والشجاعة، وهذه كلها سلوكيات تتبادل من خلالها الأدوار بين الفطرة والمكتسب فينطلق من خلالها الفرد ليحافظ على عدالة القضية الإنسانية أينما كانت، وفي أي زمن تكون، بغض النظر عن محددات الجغرافيا، والدين، والعرق، والجنس "النوع" فمن صفات النفس النقية أنها تلتحم مع مثيلاتها من الأنفس، متجردة من مظانها الخاصة؛ إلى حيث الفضاء الإنساني الرحب.
وبوشنل انطلق من مجتمع يوصف بأنه مادي بحت، ولكنه تحكمه قوانين ونظم مكتوبة، ومسلم بأهميتها في تنظيم حياة الأفراد في محيطه الجغرافي فقط، ولهذا فثقافتهم تتم عبر هذه الصورة الملزمة، ولأنها ملزمة في محيطها الجغرافي، فإن خارج هذا المحيط تختلف المسألة تماما، وتظهر المادية في أبشع صورها. ولكن لأن الفرد تعود أن يكون ملتحم بثقافة الأمر الواقع، وتأصلت في نفسه من خلال ممارستها، فبالتالي إن يرى هذا الأمر الواقع ليس له أثر خارج منظومته، فإن ردة الفعل لن تكون أقل من ذلك، فالوحي الإنساني قاسم مشترك بين الجميع، ولذلك نرى الحشود الألفية من البشر في معظم الدول الأوروبية، وهي تلتحم مع ما يحدث في غزة، جمعها في ذلك هذا البعد الإنساني لا أكثر، مستعظمة سوء مواقف النخب السياسية في بلدانها، ورافضة لكل ما من شأنه أن ينتقص من هذا البعد النقي الذي يواجه خطر عدم الإحساس بأهميته في تجيير المسافات الفاصلة بين الشعوب قاطبة، بغض النظر عن انتماءاتها العرقية والدينية، أو الجغرافية، وبالتالي فلا يمكن للفرد النقي أن يعيش مزدوج الفكر والتوجه؛ ويناقض نفسه في نفس الوقت، ومن له القدرة على ذلك، فهذا خرج من إنسانيته، وأصبح مخلوقا ممسوخا، ليس له مكان في الدائرة الإنسانية.
تذهب المقاربة هنا أكثر بين الموقفين، فبالإضافة إلى البعد الزمني ما بين عام 2011م، وعامنا الحالي 2024م، والبعد الجغرافي ما بين تونس في القارة الإفريقية، وأمريكا في القارة الأمريكية؛ أن هاتين المسافتين الزمنية والجغرافية، الفاصلتين بين الحدثين والشعبين، لم تغيران شيئا من قناعات الناس فيما يخص البعد الإنساني، وحتى إذا كان المحفز الأساسي في حادثة البوعزيزي في تونس، وهي الإهانة الذاتية للشخص نفسه، إلا أنها تعبر عن حمولة اجتماعية تتعرض لذات الانتقاص في حقها الإنساني في العيش بكرامة في ذات محددها الجغرافي، وأن هذه الكرامة مهدرة قيمتها في وطن الأصل، ولذلك كان ثمن استرجاعها هو هروب الرئيس نهائيا من بلده، ولجوءه إلى وطن بديل، بقي فيه إلى آخر لحظة من عمره، وإن حادثة بوشنل هي ذاتها تنتصر لنفس المبدأ وهي هدر الكرامة الإنسانية في الوطن الأم، وأن العمل على تجفيف منابع هذه الكرامة في وطن جغرافي آخر بعيد؛ كما هو الحادث اليوم في فلسطين في القارة الآسيوية، لا يختلف عنه في الوطن الأم، وأن القيم الأمريكية التي يعتز بها الشعب الأمريكي إن لم توظف في أي مكان يحل فيه أي فرد أمريكي، معناه أن لا قيمة لها في الوطن الأصل، حيث يعبر ذلك عن انفصام في الشخصية الأمريكية، بالإضافة إلى ازدواجية المعايير التي يتجاوز بها الساسة الأمريكيون لتحقيق مصالح سياسية في أوطانهم على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها، فهذه ردة فعل طبيعية، وإن كانت غير متوقعة في ذات المجتمع؛ لقسوتها على النفس، وما زاد الأمر تعقيدا أن من أحرق نفسه هو منتمي للمؤسسة العسكرية ذاتها التي تقتل وتشرد وتروع، وتبيد آلاف البشر في وطن لا ينافسها على شيء سوى الانتصار الأعمى للظلم والجبروت والتكبر والتمرد، ولذلك حتى لو شعر الساسة الأمريكيون بشيء من الانتصار المادي من جراء ذلك، فإن هذا الانتصار، بالإضافة إلى كونه انتصارا زائفا، يكون في الوقت نفسه؛ مشكوكا في قيمته الإنسانية، ولا يعبر عن حقيقة الشخصية الأمريكية التي ترى في نفسها أنها تلتزم بالكثير من القيم الإنسانية – عبر حشودها الممتدة مناصرة للقضايا الإنسانية في غير بلادها؛ كما هو الحال في مناصرة الفلسطينيين في محنتهم التي يعمق مأساتها نظامهم السياسي - وتفاخر بها حالها كحال كل شعوب العالم، فالحرق هنا يأتي رفضا مباشرا لخلاف الإيمان بذلك الذي ينتهجه الساسة الذين ينطلقون من حسابات الربح والخسارة المادية، والقائمة على مفهوم السوق الصرف، وليس على مفاهيم البعد الإنساني في تجلياته المختلفة، ولذلك وتأكيدا لمعاندة هذه الحسابات المادية، لا تزال الحشود تملأ الساحات والطرقات رافضة السلوك المزدوج الذي يمارسه الساسة، ويقولون أننا: لا نتفق، ولا نؤمن بكل الحسابات التي لا تنتصر للبعد الإنساني، وللكرامة الإنسانية، بغض النظر عن الانتماء الجغرافي لهذا الشعب أو ذاك، ولعل الجميع شاهد زرع الأعلام الفلسطينية على امتداد حديقة البيت الأبيض بكاملها.