يوميات منسية لجنود منسيين
إلى جانب تمارينهم اليومية على السلاح، كان على الجنود أن يختلسوا الهدنة الصغيرة بين الحرب والأخرى للتمرن على وضعيات الكتابة في الخنادق، وخلف السواتر الرملية، وفي بطون الدبابات. كان على كل فرد منهم أن يتأكد من وجود قلمٍ ومفكرة جيب بين متاعه الشخصي وعتاده العسكري، قبل صعود الشاحنات المتجهة صوب جبهات النار؛ وذلك حتى لا تحتكر التاريخ أقلام المؤرخين التي تتصرف في الكتابة بدم الجنود المنسيين بعد مرور سنوات على الحرب، وحتى لا يقتسم القادة السياسيون والجنرالات لوحدهم دم الرواية بين أوراق مذكراتهم.
تستطيع مذكرات الجنود ويومياتهم المدوَّنة في الجبهات أن تكتب تاريخًا مضادًا أحيانًا للرواية الرسمية التي تروج لها القيادة السياسية، في حالتي الانتصار والهزيمة على حد سواء. لذا فإن احتراف هؤلاء الجنود للكتابة عن كل ما يتعلق بسير المعارك والجاهزية العسكرية والروح المعنوية السائدة في المعسكرات يمثل تهديداً حقيقياً للدعاية السياسية التي يلقنها التلفزيون الرسمي للشعب عامة، ولأسر الجنود والضحايا بشكل خاص.
ربما قد يعثر السائح في أروقة المتاحف حول العالم على صور فوتوغرافية مرممة لجندي ما وهو يكتب في الخندق، تاركاً للمتفرجين أن يخمنوا موضوع كتابته والحالة النفسية المحيطة بها وهي تخرج من تحت أصابعه المرتعشة خوفاً وتعباً من الحرب. في البال صورة بالأبيض والأسود عمرها الآن أكثر من مائة سنة، قيل إنها لجندي فرنسي في معركة "فردان"، أطول معارك الحرب العالمية الأولى ضد الجيش الألماني: يكتب الجندي على ركبتيه، وهو منطوٍ على جسده في الخندق، ما يشبه الرسالة إلى ذويه أو ربما وصية مفتوحة على كل احتمالات الموت في ذلك الخندق. لكن الصورة هذه لجندي فرنسي هارب من السلاح إلى الكتابة البدائية ستعيد إلى ذهني بطريقة معاكسة صورة أخرى لشاب فرنسي يقف بغليونه الشهير مرتدياً بدلته العسكرية ونظارة دائرية العينين، شاب في منتصف الثلاثين من عمره، أسلمته السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية إلى التجنيد العسكري، حيث تجرد تقريباً، لسنة وسبعة أشهر قضَّاها في تلك البيئة، من بُعده الفلسفي ولغته الأدبية التي كان يتمتع بها في باريس. إنني أتحدث عن جان بول سارتر، الفيلسوف الذي يجد نفسه، بسبب حَوَلٍ في عينيه، بين رجال القوات الاحتياطية المتزوجين وذوي الأطفال. دون سارتر إرث تلك التجربة العميقة في قرابة ستة عشر دفتراً قرر ألا تنشر إلا بعد موته، وهكذا تكفلت دار غاليمار الفرنسية بنشر أجزاء من دفاتر اليوميات تلك بعد ثلاث سنوات من رحيل سارتر. لم تُكتب "دفاتر الحرب الغريبة" بأسلوب سارتر كفيلسوف وروائي بدأ حضوره الأدبي والفكري يتشكل قبل سنوات من اندلاع الحرب، بل كُتبت بأسلوب جندي يرتجل سطور يومياته في غمرة المناخ المضطرب للحرب، كما تقول العديد من القراءات النقدية، وبعيداً كل البعد عن الأدب، كما يقول رولان بارت. يقتبس الكاتب إبراهيم العريس في مراجعة له عن الكتاب إشارة تركها سارتر ليومياته المهملة وعن علاقته بتلك الحرب: "كنت أخوض حرباً على صورتي... وبما أنني كنت مناضلاً ضد النزعة العسكرية أردت أن أخوض الحرب بوصفي جندياً بسيطاً أنا الذي كنت ضد الحرب لكوني مثقفاً. كنت أرى نفسي معكوساً في تلك الحرب التي كانت هي بدورها تنعكس فيَّ وتعيد إليَّ صورتي. وكانت النتيجة أنني رحت أول الأمر أكتب عن الحرب لينتهي الأمر بي إلى أن أكتب عن ذاتي إذ باتت الحرب بالنسبة إليَّ أشبه بفترة نقاهة...".
في التجربة العسكرية العربية فإن صوت الجندي يتلاشى ولا يكاد يسمع حتى بعد سنوات من هدوء المدافع والعودة من خطوط النار. ونادراً ما تقتحم مذكرات الجنود ذوي الرُتب الصغرى سياق التاريخ أو الإعلام عندما تقرر دولة ما أن تحشد كُتَّابها ومؤرخيها وصحفييها لتصفية حساباتها مع الماضي بتأريخ آخر حروبها في رواية رسمية واعتراف أخير تدلي به القيادات أمام الله والأمة. لعلنا بحاجة إلى دراسة حقيقية من داخل معسكرات التجنيد لفهم مدى إيمان الشخصية العسكرية بضرورة الكتابة التي تأتي من أسفل الهرمية العسكرية في إضفاء حالة من التوازن المنطقي في كتابة التاريخ.
خلال هذا الأسبوع الذي يتزامن مع مرور ٤٩ عاماً على حرب أكتوبر، كنت أحتفي مع نفسي بقراءة "مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس" وهو كتاب صغير يضم يوميات جندي مصري لا أثر له اليوم حتى على ويكبيديا رغم أهمية مذكراته ودوره كمناضل ومثقف مؤمن بالاشتراكية العلمية ! إنه أحمد حجي، واحد من بين الرجال الذين جُندوا بالقوات المسلحة عام ١٩٦٨، أي في الفترة العصيبة التي عقبت النكسة مباشرة، وشهدت إعادة بناء الجيش المصري، قبل أن يُنقل إلى جبهة السويس في غمار حرب الاستنزاف التي بدأها عبد الناصر وكانت تمهيداً لما حدث في أكتوبر من عام ١٩٧٣. تبدأ مذكرات أحمد حجي منذ يوم الأربعاء ٢ أبريل ١٩٦٩ حتى الأحد ١٦ أغسطس ١٩٧٠، دون فيها طوال هذه الفترة مشاهداته اليومية كشاهد على الحرب، ووثق في حكايته حكايات أخرى لجنود عابرين شاركوه الخبز والملح والدم، وذلك قبل استشهاده في جبهة السويس بعد عامين تقريباً من التاريخ الذي توقفت عنده المذكرات..