يوميات متابعة العدوان على غزة
أريد أن تكون هذه المقالة بمثابة وثيقة شخصية عما يحدث، يمكنها مع مرور الوقت أن تشير لموقعي التاريخي الآن وكيف أتلقى كل ما يحدث. أستيقظ كل صباح لأتابع كل حسابات مواقع التواصل الاجتماعي التي وضعتها على حالة «التنبيه»، لمتابعة مستجدات الأوضاع في غزة، بعد أن أقوم تماما، أبدأ بالبحث عن أسماء عائلات أصدقائي داخل غزة ممن فقدت الاتصال معهم، لأتأكد من أنهم على قيد الحياة. ذلك أنها الطريقة الوحيدة لمعرفة من مات ومن فُقد في المجازر اليومية التي تحدث هناك.
منذ بداية الأزمة أجلسُ مع صديقتي المقربة التي تعيش معي هذه الأيام، ونبدأ بمتابعة الأخبار العالمية، نفتح كل الصحف المعروفة، ومنتجاتها المختلفة، نتعقب العناوين وما يمكن أن يقول لنا أي شيء عن طبيعة العالم التي كنا ننكرها طيلة حياتنا تقريبا، تترجم لي هي من الألمانية ما يحدث هناك، وأصر بدوري على البحث عن الصحف المستقلة لنرى إن كان ثمة صوت آخر يحكي سردية ما يحدث في غزة وللفلسطينيين من إرهاب وقتل وتهجير وإبادة وإمحاء. نتابع أيضا أكاديميين يهوديين ينتمون لعائلات صهيونية، يحاولون معنا تقديم السردية التي قاوموا مسلماتهم وما ينتمون إليه لا للتعرف عليها فحسب بل لتقديمها للعالم كله.
منذ أحداث السابع من أكتوبر لم أتمكن من قراءة أي شيء عدا المقالات الراهنة، أنا التي لا يمكن أن يمر يوم واحد دون أن أقرأ على الأقل ١٠٠ صفحة من كتاب ما، لا نطفئ التلفزيون الذي نشاهده -وبالمناسبة عبر قنوات النقل المباشر عبر اليوتيوب- لأنني ومنذ ما يزيد على عشر سنوات لم أمتلك جهاز استقبال وتلفزيون، إذ أعتمد على منصات الإنترنت المدفوعة لمشاهدة أي شيء، بات صوت مذيعي الجزيرة غالبا الخلفية التي أتحرك فيها خلال الشقة طيلة اليوم، عدا الساعات التي أقضيها في عملي بوزارة الإعلام.
قدمنا في بعض حلقات البرنامج اليومي الذي أقدمه حاليا على إذاعة سلطنة عمان، حلقات خاصة عما يحدث في غزة، لكننا وبطبيعة الحال نحاول الاستمرار في الالتزام بأهداف البرنامج التي تقتضي متابعة النشاطات المحلية على اختلافها، وهذا ما أقدمنا على متابعة عمله. لكنني وزملائي نتثاقل في كل شيء، بداية من اختيار الضيف ونهاية بوجودنا معا في أستوديو التسجيل، كأن هنالك سحابة داكنة ومروعة تحيط بنا حتى وإن لم نصرح بذلك لبعضنا البعض. مع أننا نفعل ذلك كثيرا. درجنا على قول إننا مرهقون، وغير قادرين على التركيز مطلقا، أو أننا قضينا الليلة الفائتة ساهرين على أخبار مجزرة ما، أو خوفا من فقدان أحد ما. بعضنا لديه أصدقاء هنا في سلطنة عمان ممن فقدوا أحبة لهم في غزة خلال هذا العدوان، نشعر جميعا على اختلاف مرجعياتنا ومواقفنا الوجودية بأننا في أزمة، وفي حالة من العجز التام.
ربما تابعتم مثل ما تابعتُ بدوري الأهالي بعد انقطاع الاتصالات والإنترنت تماما عن غزة خلال الأيام الماضية، كيف أنهم وبعد عودتها عبروا عن خوفهم على مشاعر أبنائهم المهاجرين أكثر من خوفهم على أنفسهم وهم تحت القصف. ورأينا مئات المنشورات للمهاجرين من غزة الذين يعبرون عن خوفهم الشديد على عائلاتهم داخل غزة بينما لا شيء ينقل ما يحدث هناك حتى وسائل الإعلام، أنا أيضا لدي أصدقاء كثر من المهاجرين من غزة، وأريد أن يعرف العالم كله كم يعاني هؤلاء كثيرا، يتمنى معظم أصدقائي ممن يعيشون في بروكسل وبيروت وبرلين ولندن والدوحة ومختلف مدن العالم الأخرى أن يكونوا في هذه اللحظات بجانب عائلاتهم داخل غزة. يخبرني أصدقائي أنهم وفي حالات الحرب يتجمعون في بيت واحد، لكي يكون مصيرهم واحدا، إما الحياة لهم جميعا أو الشهادة لهم جميعا، حتى لا يعاني بعضهم فقدان البعض الآخر. عادة ما يتجمعون تحت سلالم البيت، لأنهم يؤمنون بخرافة أنه المكان الأكثر أمنا. يقول لي أحدهم: لقد أمسكتُ بنفسي وأنا أفتح نوافذ شقتي لكي لا تتحطم إذا ما حدثت غارة قريبة، ثم انتبهت أنني لستُ في غزة!
قلما أتداخل في مجموعات «الواتس أب» التي تجمعني بأصدقائي في غزة. لا أعرف ما الذي يمكن قوله في أوقات كهذه. أحاول جاهدة معرفة متابعة تعزية أصدقائي الذين يفقدون يوميا من دون مبالغة أحبتهم. أكتب في حساباتي الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي طلبا لإيقاف إطلاق النار، وفتح معبر رفح حالا. لكنني أستسلم فورا لنوبة من البكاء واليأس عندما يقول لي أحد أصدقائي إن أخاه الذي يبلغ الخامسة من العمر مريض جدا منذ أيام بسبب تلوث المياه المتاحة للشرب حاليا في غزة.