يوميّات: عيش العدوان على غزة «ج 6»
كان لقراءة كتاب «صخرة سيزيف» بالغ الأثر في حياتي. أتذكر أنني وقبل نحو عشر سنوات كنتُ ببراءة لا نظير لها، أفكرُ في الاختلافات بين فلسفة كامو وجان بول سارتر، أعقد المقارنات اللانهائية بينهما، وأحاول أن أعرف الفرق بين العبث وبين نظيره غير المسمى في رؤى كامو. قرأتُ الغثيان والغريب كعملين يواجهان بعضهما رغم أنهما ينطلقان من فداحة العيش، وكنتُ أتحسسُ مسدسي كلما ذكر أحدهم تفضيله لطرف دون الآخر. يُستحضر الاثنان في الوقت نفسه، مثل فريقي «ديربي» جماهيري.
أخذت وقتًا طويلًا حتى أتغير، لم تعد هذه أسئلتي، فكرتُ بالتزامات كامو السياسية، في موقفه من استعمار فرنسا للجزائر وسرقتها لثرواتها، فكرتُ في سارتر الذي حاول تطويع فلسفته كي لا تصبح فرديةً بالمطلق، بعد أن هاجمه الاشتراكيون حول عدمية أطروحاته وشراسة فردانيتها أمام «النحن» التي كانوا يحاولون تأليفها في الستينيات، آخر معاقل مواجهة رعونة هذا العالم.
لكنني اليوم لا أتذكر -ومع كل ما يحدث- إلا فكرة تلمعُ في رأسي كل الأوقات. حديث كامو عن سبب العصابة التي توضع على العين عند تنفيذ الإعدام على المحكومين به في كتابه «صخرة سيزيف». إن من أشكال الرحمة قبل آخرةِ المعدمين الوشيكة، أن يُحجب العالم عنهم، أن تتم تعميتهم، إذ إن ما يواجهونه هو الأبدية. وكم هو قاس أن تكون في مواجهة ضارية معها، أن تراها رابضة هناك أمامك بانتظار تلقفك لتصبح نغمة فيها، نغمة في جوقة لانهائية. أفكرُ الآن وبعد كل هذه السنين أن العالم الذي أعيش فيه، وضعني على كرسي إعدامه دون حتى رحمة تلك العصابة، ليس هذا فحسب، بل قال لي ولغيري انظروا لأبديتكم، متماسكة، ولا شك حولها، لا تسيل، ولا توقف العالم للحظة حتى يحدق فيها.
إن ما يحدث في غزة الآن في هذه اللحظات، أبديةُ هذا العالم، نهاية تاريخه، إنها الحقيقة الكبرى في زمن ما بعد الحداثة الذي وخلال عقود قال لنا إنه ما من حقائق! وإن العالم تم تذريره (من ذرة) أو هو ذريٌ في الأصل، إذن لماذا يبدو أننا أمام نتيجة تبدو كما لو أن كل الطرق كانت تأخذنا إليها؟
لا أستطيع حتى التفكير بما سيعنيه هذا الصمت عن الإبادة التي يتعرض لها الغزّي اليوم في المستقبل القريب، إذ لا مستقبل قريب ولا بعيد، يبدو أن التاريخ قد توقف حقا، وأن الزمن لا يتقدم ولا يعود، بل انحبس في هذه اللحظة.
لا أستطيع التواصل مع أصدقائي في غزة، لم أعد أتحدث إليهم، توقفتُ عن متابعة الأخبار، تركتُ هاتفي الذي يشعرني أن معدل استهلاكي له وصل للحد الأدنى منذ بداية استخدامي للهاتف الذكي قبل نحو ١٢ عاما، تركتُ علاجي الدوائي إذ لا عافية أبدًا، وبتُ أكره وأحقد على الكتاب الذين يقولون إن ثمة سلوى في أي شيء حتى وإن كان ذلك في القراءة. قصصتُ شعري قصيرًا للغاية، قصصته مثلما تفعل النساء المنكوبات -(راجعوا فصل جز الشعر من كتاب في أثر عنايات الزيات لإيمان مرسال)- وبعد هذا كله، قلتُ لأقرب صديقاتي، أنا مختلفة الآن، لكنني أثق بأنك ستفهمين هذا جيدا، وستغفرين، فأي شيء أصعب من هذا الذي نشاهده، أو لم نعد نشاهده لكن ما زال هناك، حيث الدماء تسيل والناس يموتون من الجوع والأوبئة.
وأنا أتمشى في معرض مسقط الدولي للكتاب هذه الأيام وأضعُ قناعي الذي يسقط أحيانا على الرغم مني، نتوقفُ أنا ومن أقابلهم عن الكلام عندما نبدأ بالحديث عن مشاريع مؤجلة، حلقة بودكاست كان من المفترض أن يتم نشرها مثلا، ونقول: «لكن ما يحدث في غزة.....الخ» جميعنا إذن نضع أقنعتنا، التي لا أعرف متى سنقرر أننا من سينزعها نهائيا وسينهار من أجل العدالة وإيقاف هذه الكارثة.