يوميات سورية 66
عندما يطلب مني مادة صحفية للنشر أصاب بالفضول تجاه التطور اللغوي الذي يحدث للنص وآلية نمو الحادثة، وخصوصا الورطة التي يقع فيها امتحان الجدارة للحادثة وتطورها.
ها قد مضى ثلاثة أشهر لم "أتلفن"، ولم أسأل، ولم أكترث. فنحن ثلاثة أشخاص أو أربعة من بقايا الحرس القديم، من كتيبة العفة الخالدة، وفصائل عفة جورج الحكيم أحيانا، وأكبر منه قليلا عبدالناصر مثلا، وقبله نحاتو العمليات المخيفة.
لم "أتلفن". لأنني مللت هذا النوع من التواصل السهل، والجُمل القصيرة، والأحوال التي لم تعد الكلمات النمطية (أنت بخير؟) تردد صدى مدفعية الكون، أو تحجب صرخات المدن السورية، أو تجعل أملا في نهاية سعيدة... يشبه بساطة الطبخ السوري الحميم: مجدرة، أو شيخ المحشي أو يهودي مسافر، أو عربي هربان.
لكن صديقي، ابن جيلي، الشاعر الحار والمنسي، سهيل إبراهيم هو الذي "تلفن"، بعد ثلاثة أشهر من آخر لقاء في قهوة الروضة... وقال عاتبا: لمَ لم تسأل عني؟ قلت له: ظروف! فشرح ما حلّ به في هذه الفترة: ثلاث عمليات جراحية. كآبة مفرطة. سرطان مثانة. كوارث علاج، ولكنه أضاف: هذه نهايات طبيعية في شيخوخة غير مسلحة، وعمر مضى بلا شيء سوى الآمال المضللة، وخيانات الجسد! وأضاف: كان من واجب الباقين على قيد الحياة تخفيف ألم ثقافة الموت، وواجبات التضحية وكل مفردات التكلفة الباهظة.
قلت له: خلال هذه الأشهر الثلاثة، أنا مثلك، عشت تجربة مرض من هذا النوع: (زوجتي) انهدمت فقرتها الثالثة بسرطان أيضا، جاء إليها عامدا متعمدا من البحر الأسود المتوسط إلى القامشلي (شمال سورية) وأورثنا، نحن الذين نؤلف جزءا من الحياة السورية اليوم، تقسيما من هذا النوع:
القسم الأول: جيل يتجه إلى نهايات مؤسفة في التقدم في السن. وجيل يتجه إلى بدايات مؤسفة في التأخر في الأمل.
هكذا... الكهول كالبطاريق، يذهبون جماعيا إلى أعالي الجرف الصخري ليرموا أنفسهم في البحر. والشبان، كالعفاريت، يؤلفون أنغام تذمرهم من فقدان الأمل... بالذهاب إلى عنف ثورتهم، ليؤلفوا إيقاعات دم مهدور!
كان سهيل إبراهيم، في حركة القوميين العرب، في الستينات. وفي السبعينات، كان شاعرا وحسب. يتذكر أيام السجن، لأن القومية العربية من وجهة نظر عبدالناصر، غيرها من وجهة نظر أمين الحافظ وميشيل عفلق، تلك الأيام. وتتدرج المصائر حسب جغرافيا الحضور الأسبق للقتال في جنوب الثورة. في التسعينات... خذله أيضا أصدقاء في الحياة. في الألفية الثالثة خذله أصدقاء بالموت. تقشرت البرتقالة كلها، من عصيرها انهدرت لذة العيش! أعتقد أن موت علي الجندي وممدوح عدوان ومحمد عمران ويوسف مقدسي وهاني الراهب وميشيل قوشقجي، وعدنان بوظو وسعدالله ونوس كان حضورهم احتفالا بشيء من الحياة. وغيابهم مع ظهور كتّاب الدرجات الدنيا... هو الإيذان بالانهيار... موت هؤلاء هو نقصان.
لم يعد أحد، هذه الأيام، يذكر أحدا. النسيان ضغينة الواقع. وليس لجيل ذاكرة، إن لم تؤسس ثقافتنا المعاصرة فكرة هذا السؤال: "كيف ترى بعيدا أيها الشاب؟ الجواب: أصعد على أكتافك أيها الكهل!"
سهيل... كان يستحق قدرا أفضل من سرطان.
والسرطان لديه فرصة تحقيق عدالة في توزيع الألم على من يملك مالاً لتفاديه... غيرنا، نحن، قبيلة العفة!
وإذا كان التملق الأبيض يتجه إلى الرجاء: خذنا معك يا رفيق إلى مكان ما وأعد لنا الأمل بالاجتماع كل سنة مرة لنحاول أن نرتب لحظات القدرة على احتمال الفقدان. إن لي هذا المساء أملا بالطلب إليك منحي هذا المشوار الكسول بين عدد من شجيرات الصبار ريثما يتطوع أحد ما بكسر الغصن الذي نتزنزق عليه في أطراف الشجرة.
هل عليّ أن أكابر بعد أن طقطقت عظام الحشرات المسكينة وهي تحاول تفادي أي شيء من هيكلها العظمي، فتظل تنجو ليغدو ترتيبها الثانية، ثم الثالثة فالرابعة فالخامسة وبعدها تنزل الصرصارة، وفرس النهر وحائكة الموسيقى ومنتجة اللحن الوحيد ليكون الأخير في الغابة البائسة من علامات الانقراض.
لقد مات الرفاق جميعهم.
ـ جميعهم؟ أنت متأكد؟
ـ نعم، ولقد حاولت تقبيل ما تبقى من قرون استشعار صديق سيمر.
لقد غادرنا معا يا صديقي.