يوميات سورية 63
-1-
سألتقط حبوب القمح الطائشة، بعد أن رشها الفلاح لتصبح خبزنا القادم، واعتني بها، وأحاول أن أثابر، كأجدادي على موسمي المكرر ومتعة السنابل المكررة، وفي نهاية آخر متر من السنابل ممدودة الأعناق، سأجلس، أستريح وألفّ سيجارة الفلاح لنفسه، وفي تمهل موروث منذ مئات آلاف السنين... أحصد هذا الحيّز الغرامي، وأسجل في مفكرتي، وأنا أغادر: «شكرًا. القمح، كما في الخريف الماضي، لم يخذلني...» وفي صفحة مجاورة هنا كتبت: «الشق في حبة القمح يرمز إلى أن النصف لك، والنصف الآخر لأخيك».
-2-
وقعت الطابة البائسة المؤلفة من خرق وأقمشة بالية. حاول ابن جيراننا أن يربطها بمطاط وهو يرقصّها كل يوم في ساحة بيتهم، ولكنها، ذات يوم، قطعت قيدها ونطت إلى ساحة بيتنا. وتعرفنا إلى الجيران وكان هذا في عام 1964 وزملاؤنا بالأعمار صاروا كلهم ما نسميهم أصدقاء العمر.
كبرنا معًا في تلك السنة الحاسمة (البكالوريا) وافترقنا. ثم التقينا بعد الجامعة وبعد السفر وبعد العودة، ومن سنة لأخرى كنا نحصي خسائرنا من زملاء الأعمار. زملاء البحر. زملاء الصيد. زملاء الحب.
الطابة أداة نمو عضلاتنا. الزورق ...بروفة الصراع مع الموج ومخاطرات السفر.
والآن أقف على شاطئ البحر في اللاذقية لأقول وداعًا لمن غادرنا.
وقفنا في صحن الدار وأمامنا الطابة القماش، وقد أحضرها زملاء الكون القدماء جميعًا، لتكون أمامنا أيقونة طفولتنا. وهي تهزنا، ذاكرة ذاكرة ، فننهمر خليط دموع من أزمنة متعددة.
-3-
كتب لي الممثل السوري أسامة الروماني في إحدى المناسبات: «الأطفال يولدون ثم يصرخون. أنت، يا عادل، صرختك سبقت ولادتك، لأن عويل أم القتيل زرعت شريحة في مشيمتك. أشعر بالأسى الذي ينتاب المترفين عندما يقرأون قصائدك ويتساءلون: ونحن؟ أليس من شاعر يرصد سعادتنا ولهونا؟».
أسامة الروماني، حضوره، في أي مكان، هو نسخة مبتكرة ومعدلة، كل يوم، يمر وهو يحمل في ابتسامته الثقة، التي لم تهن ولا مرة، بأن من واجب الفنان، كما هو الإنسان، أن ينشر كبائع الورد... عطره.
أسامة... عثرت عليه كهدية ملفوفة بورق ملون، ما زلت منذ 50 عامًا منهمكًا بتقشيرها من التعاويذ الجميلة واحدة بعد أخرى... ولدي من الوقت ما يكفي لذلك.
-4-
قال هيرمن هيسّه: «اللغة ليست أداة تعبير... إنها موطن روحي. ولكن يجب عليّ التخلص من عادة الأمل». أنظر خلفي وأمعن النظر، في هذه الطوابير المصفوفة لمحكومي إعدام، وعلى وجوههم فكرة طائشة في الخيال:
«حين يعمّ الصقيع الكوني الأخير سأستعين، في اللحظة الأخيرة، بشمعة أخيرة، أشعلها بعود ثقاب أخير... وأوقد ذكراك على هذه الأرض!».
-5-
من دفتر قديم:
لا أريد هذه الكمية الزائدة من الألم البطيء،
أريد، تحديدًا، صاعقة جميلة... تضيئني.