يوميات سورية 46
-1-
كانت لي، ذات سنوات، هواية التصوير الفوتوغرافي. فتحت ورشة طبع الأسود والأبيض في مختبر صغير في مطبخ البيت. وكنا نقضي ساعات، أنا والشاعر نزيه أبو عفش، في تحميض وطبع الصور، وتكبيرها... بعد حصيلة مشوار لصيد اللقطات.
ثم تركت الهواية... وسافرت.
بعد مرور 50 سنة... صعدت إلى السقيفة (مستودع المطبخ) لأجد آلة طبع الصور ملفوفة بالغبار. وتساءلت: لماذا توقفت عن التصوير الفني والصحفي، وإنما حتى عن التقاط الصور التذكارية.
قرأت عن المصور "كيفن كارتر" الحائز على جائزة بوليتزر للتصوير الفوتوغرافي.
لكيفن صورة، اشتهرت في العام 1994، لطفلة هزيلة من جنوب أفريقيا تحتضر من الجوع في أرض خلاء، وثمة نسر على بعد بضعة أمتار منها ينتظر موتها.
بعد ثلاثة أشهر من حصوله على الجائزة... انتحر، تاركاً الرسالة التالية: "أنا آسف جداً جداً. لكن ألم الحياة يفوق متعتها." كان أرشيف صوره مرعباً، كان كيفن زميلاً للمصور الذي التقط بقايا قدمه المتدلية بعد انفجار لغم به، ليلتقط لها صورة وداع.
الطب النفسي في جنوب أفريقيا، أيام الفصل العنصري ، تطور ليواكب ظواهر أمراض جديدة، ومن بينها الرضوض النفسية والاكتئاب الذي يصيب المراسلين الحربيين ومصوري مصائر الجسد البشري.
فتحت أرشيف صوري... وأغلقته فوراً. لا أريد امتحان أعصابي مرتين!
-2-
مات حاتم الطائي (أسطورة الكرم العربي) فأبلغ أخوه أمه: أنا سأستمر في طريق حاتم في العطاء والإضافة والسجايا. فقالت الأم: لن تكون مثله حتى لو فعلت ما فعل. الكرم يا بني عادة قلب وطبع غير معروف سببه. ليس شرطه الغنى، ولا مانعه الفقر، ولا موائده النوايا.
حاتم، عندما كان رضيعاً كان يبكي على صدري حتى أضع إلى جواره على الثدي الآخر طفلاً آخر. وعندما كنت أنت رضيعاً تظل تبكي إلى أن أزيح عن ثديي الطفل الآخر.
-3-
اللغة تدل على الناطقين... هويات مفاهيم، وتعريفات الأشياء ووصفها ومواريثهم، خذ مثلاً هذه الجملة الخبرية: "وقع أو وقعت في الحب" تنطوي الجملة على خطورة كسر ساق على سور فتاة عاشقة في بيئة محافظة. وفي الجملة نفسها احتمالات كسر قلب، امتلأت به الأغاني العاطفية. إن هذه الجملة تنطوي على وفرة في أنواع الكسور... ما دامت أول كلمة في الجملة... "وقع".
خذ هذه الجملة أيضاً: "اندلعت الحرب" الجملة بائسة لشدّة فقرها لغةً، قياساً بما تخبر عنه، واقعاً. الجملة كأنها استخفت بما تفعله الحرب: اندلعت... هذا يعني مئات آلاف الضحايا، آلاف المدن المدمرة... مقابر مجهولة لمجازر جماعية... اندلعت الحرب، جملة فقيرة ومغشوشة.
اندلعت الحرب في سورية...ها نحن في العام الثاني عشر. والموتى لم يصلوا بعد إلى نهايتهم .
-4-
قصاصة في الطريق:
"سأطلب كل يوم، بلا كلمات أن:
تنمو عضلاتي لإخافة وحش الظلام، الذي يقطع الكهرباء. وأن يكبر عقلي، فأغض الطرف عن أذى هذه البلاد. وأن أبتسم كل يوم، في تدريب متواصل أمام المرآة، كي لا يبدو على وجهي سحنة اللاجئ الحديث، وحزن الغزال الجريح.
أود أن استيقظ صباحاً، وأمامي في علبة نقود العائلة، ما يكفي لشراء 4 حبات بطاطا، وبيضتين.
أود أن أصل يوماً إلى تعريف جامع مانع قاطع للسعادة... أو على الأقل، لبعض صفاتها السعيدة.
أود كل ذلك، فقط، كي أستطيع تمضية هذا اليوم بسلام.
- 5 -
من دفتر قديم:
قالوا لنابليون ذات عشية
إذ كان يرقب في السماء الأنجما
بعد فتح الأرض ماذا تبتغي؟
فأجاب: أنظر كيف أفتتح السما