يوميات سورية 29
ـ 1 ـ
كتب لي الروائي الصديق حيدر حيدر رسالة تقول: لماذا أنت مسكون بالموت؟ دعه إلى لحظته، واحتفل بما تبقى لك من الحياة. الرسالة رد على رسالتي له عن الموت وموجعات ما يتسبب به من فراق أبدي للأعزاء الذين تنخفض، بغيابهم، أفراح كثيرة مؤجلة. كتبت له: عزيزي أنا ممن يحتفلون بالحياة، ولكنني التفت، بين حين وآخر، إلى اهتزاز الذيل الملون لبلبل الأيام، حارس النغمات الجميل، الذي كلفته بأن ينبهني إلى وصول غرباء، قد يكون من بينهم الشخص المتكرر بهيئة روحانية، وفي يده منجل لحصاد الحياة.
ـ 2 ـ
وفي سياق الحديث عن الموت، مع رفع الكلفة معه، تذكرت الشاعر العراقي يوسف الصائغ الذي ماتت زوجته الحبيبة بحادث سيارة. فكتب لها ديواناً بديعاً عنوانه: «سيدة التفاحات الأربع». وقد حاولت كل القصائد أن تشيع عدم التصديق. واعتبر الشاعر أن موتها غير معترف به، وعاملها وعامل نفسه على أساس أنها لم تمت.
قال في إحدى قصائد الديوان:
اليوم جمعة الأموات...
يذهب فيه الناس إلى القبور
قومي معي نبكي على قبرك يا حبيبتي.
وحين يتعبنا البكاء...
نترك عند القبر...
إكليلاً من الزهور.
ـ 3 ـ
والشعر، من بين الفنون جميعاً، أصعبها. ولذلك الشعر قليل والشعراء أقل.
ربما كان «ريلكه» على حق عندما قال: «إذا أردت أن تكتب سطراً شعرياً واحداً... يجب أن تكون قد زرت مدناً كثيرة». وكان ضرورياً أن يضيف... وعشقت نساءً كثيرات.
الشعر هو حارس الحب وعدو الموت. لذلك هما موضوعان خالدان للشعر... الذي يأسف «لأننا أشخاص مؤقتون»، إن الشعر أغنية للتبشير دائمة الجريان. والشعر ليس طويلاً ولا قصيراً. لا تفعيلة ولا وزناً، وليس حديقة أزهار وسماء زرقاء... إنه محاولة دؤوبة لإشباع النهم الجمالي عند الإنسان... لقد استغرق الأمر ملايين السنين حتى أوشك الإنسان على تقليد غناء العصفور.
في الهايكو الياباني توجد قصائد كاملة النمو في أسطر قليلة عن الجوع:
تعالي... نرتب هذه الزهور
في هذه الأواني...
ما دام ليس لدينا أرز.
وكذلك اختصر شاعرٌ مرارة الفقدان في بيت واحد:
بكيت من السراب وحين ولّى وأوحدني بكيت على السراب.
ـ 4 ـ
أول الجامعة:
في نهاية العام الأول حصلت على الشهادة الثانوية، فانتسبت إلى كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية، وكانت المحاضرة الأولى للأستاذ الأربعيني، الشائب العبوس أ. راتب النفاخ، الذي بدا لنا كقديس متقاعد، وعلى كتفيه المتهدلين ترفرف طيور الحكمة، ويتأبط كتباً ينوء بحملها، وضعها على الطاولة، وتأملنا واحداً واحداً في المدرج الصغير. وبعد صمت مهيب بدأ الأستاذ النفاخ درسه الأول: اليوم... سأحدثكم عن رجل مختل عقلياً، مزوّر للتاريخ، ومدمّر للآداب، ومخرّب للذوق والأدب. سأحدثكم عن رجل أعمى البصيرة والبصر... هو المدعو طة حسين.
بعد صمت قصير... وعلى مدى ساعة من القصف الفصيح عرفنا أن الهجوم كان على كتاب «في الشعر الجاهلي»، لطه حسين... ذلك الكتاب الذي أثار عاصفة سياسية، وفكرية، ودينية في ثلاثينيات القرن العشرين.
ومنذ تلك الساعة الأولى في جامعة دمشق... ندمت على انتسابي إلى كلية الآداب.
ـ 5 ـ
من دفتر قديم:
«إذا شددت الوتر... ينقطع.
وإذا أرخيته... لا يعزف».