يوميات سورية 27
ـ 1 ـ
الظلام كان بالأمس كأنما ظلام الحرب. ولكن بعد منتصف الليل كان القمر هو علامة انتهاء القتال، وإحصاء الآلام قبل النوم.
لم أستطع الذهاب إلى النوم... فقررت أن ازيح، بريشة القلم هذا الصمت.
سأكتب قصة أول كل شيء بسطور قليلة، مثل: أول يوم في المدرسة. على أول طائرة سافرت بها، إلى أول حب، وأول عمل وأول بيت، إلى آخر "الأولات" التي ساهمت في تأسيس بيت الذكريات وتأثيثه. وأظنها ستنعش لدى القارئ مثيلاتها المشتركة.
ـ 2 ـ
أول المدرسة:
الصف الأول... أتذكر غرفة الصف الباردة والمعتمة. وفجأة يطل قمر من الباب هو المعلمة. شقراء، بسمتها ضوء، صوتها عصفور. وأول درس كان أغنية:
أيها النهر لا تسر
وانتظرني لأتبعك
أنا أخبرت والدي
إنني ذاهب معك
فانتظرني لأتبعك
كانت الكلمات محمولة على صوتها الساحر. وملحنة في بساطة تشبهها. وطلبت منا محاولة حفظها بالتكرار، ومضى الوقت بالتكرار.
وفي اليوم التالي
كنا نحب المدرسة.
ـ 3 ـ
"نمير" شاب من القرية، فتنته مهنة أبيه: تربية النحل.
مات والده، فأورثه 10 خلايا نحل، وخبرته في تاريخ وسلوك وطبائع وأنواع النحل والعسل، ومشتقات عبقرية النحل. كما أورثه الصمود على اللسعات.
"نمير" صار مرجعا في النحل. وأهديته بضعة كتب حول الموضوع. ونمير لا يغش العسل أبداً، ولذلك كان إنتاجه من العسل، الذي لا يقل عن طن سنوياً، يباع خلال شهر الموسم.
أمس... في الغسق الساحر، رأيت "نمير: يجر "حماره" الأبيض عودةً من قطاف الزيتون. نمير لا يملك الآن من حيوانات الكون سوى هذا الحمار.
والقصة غير مفهومة: ذهب نمير ذات صباح لتفقد خلايا النحل التي عددها 100 خلية فلم يجد سوى صناديق مصفوفة مثل توابيت مجزرة جماعية تنتظر الدفن، في برية مليئة برثاء الخريف الأصفر: لم يكن في هذا الفضاء، الذي كان صوت أوبة النحل مساء، يُسمع من بعيد... ولا نحلة واحدة تقف على الأطلال.
عرفت نمير وتذوقت عسل خلاياه، الملكي والشعبي... وزرته بعد كارثته.
كان نمير خلاصة تصغير اسمه من "نمر" إلى "نمير". لقد مات الأول. وجُنّ الثاني. ومع ذلك ظلت ابتسامة عينيه الخضراوين ترفرف، على وجهه المليء بالسماحة، مثل نحلة تاهت عن خليتها.
ـ 4 ـ
من دفتر قديم:
1 ـ أريد حذاء جديدا لا تدخل من ثقوبه ككل فصول السنة.
2 ـ الذهب، لحسن الحظ، ليس وصفة طبية.