يوم مع بشير الديك
يحدث أن يسمي المرء يومًا من حياته باسم شخص كان له حضورٌ بارز في ذلك اليوم. وهكذا فيما يخصني سميتُ يوم الخميس 24 مارس 2016 "يوم بشير الديك"، ذلك أن هذا اليوم منذ صباحه الباكر وحتى غروب الشمس لم يترك شيئًا يمكن أن أتذكره به سوى لقائي بهذا السيناريست والمخرج المصري الذي رحل عن عالمنا قبل عدة أيام، عن عمر ناهز ثمانين عاما صنع خلالها اسمه كواحد من أبرز كتّاب السينما في العالم العربي.
لا أذكر في أي ساعة صباحية بدأت الندوة الاحتفائية بالديك، ضمن فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان مسقط السينمائي، ولكنها كانت على الأرجح العاشرة صباحا. كنتُ من العدد القليل الذي حضر الندوة، رغم أن المخرج أنيس الحبيب رحمه الله – أحد منظمي هذه الندوة - بعث رسائل هاتفية خاصة إلى ثلاثين شخصًا عدايَ، كما أخبرني، ولكنَّ قليلًا من هؤلاء حضر. كنتُ قد وصلتُ إلى قاعة فندق هرمز وفي مخيلتي أسئلة أزعم أنها نوعية، وتسبر تجربة الديك السينمائية متسلحًا بأسماء أفلام ونجوم وتواريخ. قبل طرحي السؤال الأول عرّفتُ نفسي بأنني مقدم برامج ثقافية في إذاعة سلطنة عمان، لكن أنيس الحبيب أضاف أنني روائي.
لاحظتُ ارتياح الديك لأسئلتي، فكان أن انتهزتُ الفرصة بعد الجلسة مباشرةً لأخبره برغبتي في محاورته إذاعيًّا، ولأن الحوار ستكون مدته ساعة، وسيمر على مسيرته السينمائية كلها فلا بد أن يكون في ستديوهات الإذاعة. ببساطة وتلقائية أجاب بالموافقة، ولكنه تحجج بارتباطه هذا اليوم بمؤتمر صحفي وانشغالات أخرى تخص المهرجان فاقترحتُ عليه الغد فوافق، ولكن بعد صلاة الجمعة، لأنه يريد أن يصلي في الجامع الأكبر كما قال. وطلب مني نسخة من روايتي التي أخبره عنها أنيس فوعدته بها.
كنتُ لا أزال في فندق هرمز عندما تذكرتُ فجأة أنني أوقعتُ نفسي في ورطة! لقد نسيتُ أن عليَّ أن أستقبل الليلة في مطار مسقط أخي محمود القادم من عمله في الأردن، ولأن رحلته متأخرة فهذا يعني أنني سأصل إلى صحم في الثانية صباحًا، وأن عليَّ أن أصحو في الغد مبكرًا لأعود أدراجي إلى مسقط قبل صلاة الجمعة، وهذا أمرٌ مرهق، بدنيّا وذهنيًّا. هداني تفكيري، وبتشجيع من الأريحية التي قابلني بها الديك أن أعود إليه وأقترح موعدًا آخر اليوم، فلا يصلح أن نؤجل إلى ما بعد غد لأنه سيكون قد سافر. ومن شدة تفاؤلي بموافقته أرسلتُ للزميل هلال المشيفري - مدير الإذاعة آنئذ – أن يجهّز لي تصريح دخول باسمه. وجدته واقفا في ردهة الفندق مع المخرج المصري عمر عبدالعزيز، لا أذكر ماذا كان عذري لطلب تقديم الحوار إلى الخميس بدلًا من الجمعة، لكني اقترحتُ عليه أن أحمله بسيارتي اليوم في أي وقت يشاء من الفندق إلى الإذاعة ثم نجري الحوار وأعيده إلى الفندق، فرحب بالفكرة، بل إنه قال "أيه رأيك نروح دلوقت؟"، فوافقت على الفور، لكن عمر عبدالعزيز ثبّطه بحجة أنهما متفقان أن يذهبا إلى كلية مزون، فكان أن ضرب لي موعدًا جديدًا هو الرابعة عصرا. وفي الحقيقة كان هذا الموعد أكثر مُناسبة لي من أي موعد آخر.
توجهتُ إلى الإذاعة وتأكدتُ من جاهزية التصريح باسم "بشير صِدّيق الديك"، وطبعتُ أسئلتي. وقبل الموعد المحدد بخمس دقائق كنتُ في ردهة الاستقبال لفندق هرمز. اتصلت بالغرفة رقم 4103 ولكن لم يصلني رد، فوضعتُ رسالة مفادها "مساء الخير أستاذ بشير. أنا سليمان من الإذاعة. أنتظرك في الريسبشن". وضعت السماعة وذهبت لأبحث عن مقعد أستريح فيه ريثما يهبط من غرفته، لكني تفاجأتُ به في وجهي.
تستغرق المسافة من فندق هرمز حتى الإذاعة حوالي عشرين دقيقة قضيناها في الحديث عن مصر وأوضاعها السياسية آنئذ. تحديدًا عن الإخوان والرئيس السابق محمد مرسي. قال إن عبارة مرسي: "الستينيات وما أدراك ما الستينيات" التي استهل بها خطاب توليه الحكم لاقت استياء كبيرًا من الشعب المصري. قلتُ: "ثمة من يرى أن الإخوان أساءوا الاختيار، فلو اختاروا شخصًا أكثر قبولا وأكثر كاريزما لربما كانت الأمور أفضل"، رد بأن المشكلة في الفكر لا في الشخص، وحكى لي عن دعوة الرئيس السيسي عندما كان وزيرًا للدفاع جميع الأطراف للحوار وموافقة مرسي عليه، وكيف أنه – أي مرسي - عندما كان في الطريق لمقر وزارة الدفاع في اليوم المحدد للحوار تلقى اتصالًا من المرشد يطلب منه العودة وعدم الذهاب.
كنتُ قد سمعتُ هذه الحكاية من قبل ولكن هناك من يقول إن سردها بهذه الكيفية مقصودٌ لتبيان أن الرئيس مرسي لم يكن سيد قراره. قلت في محاولة لجس نبضه إن البعض في مصر مصدوم لأنه بعد ثلاث سنوات من سقوط حكم الإخوان لا يبدو أن الآمال الكبيرة التي علقها المصريون على خلَفه قد تحققت. أجاب أن الأمر ليس بهذه السهولة. "ليس من السهولة أن تحكم مصر بعد أن تعرضت لكل هذا التجريف طوال السنين الماضية. الفساد والبيروقراطية واللامبالاة تعم الجميع تقريبا. أنا أرى أنه لو تمت إحالة ستة ملايين مصري للتقاعد برواتبهم، ووظف من الشباب العاطلين 10% منهم فقط لاستطاعوا إنجاز كل الأعمال بجودة أكبر". وافقتُه على صعوبة حكم مصر لكني علقتُ على مسألة انتهاك حقوق الإنسان، فقال: "إننا نسمى هؤلاء سخريةً: النُشَتاء، لأن ما يدعونه لا أساس له من الصحة، وحتى الاختفاء القسري الذي يزعمون ليس صحيحا، فأولئك شباب هاجروا خارج مصر دون أن يُعلِموا أحدًا". ذكرتُه بحكاية مَنْ سُمِّيَ "معتقل التيشيرت" الذي تحدث عنه الروائي إبراهيم عبدالمجيد في لقائه بالرئيس السيسي قبل أيام، وقد أمر الرئيس بالإفراج عنه بمجرد علمه بالخبر. ثم تحدثنا عن إحدى القنوات الفضائية وأخبارها المضللة عن مصر، فعلق أن هناك شبابا عاطلين ممن لا يجدون عملًا يمشون في مظاهرة تصورها هذه القناة ثم يتفرقون!
وصلنا الإذاعة في حوالي الرابعة والنصف عصرا. وقبيل دخولنا ردهة استقبال الإذاعة قال لي: "تذكرني بشاب مصري موهوب يشبهك تماما اسمه عبدالرحيم كمال" لم يبدُ عليَّ أنني تذكرتُ الرجل. فأخبرني أنه هو الذي كتب سيناريو مسلسل "الخواجة عبدالقادر" ليحيى الفخراني. توجهنا مباشرة لاستديو 4. طلبتُ من الزميل المخرج مروان السعيدي أن يصورنا قبل أن يفتح المايكروفون ففعل. ثم انطلق الحوار. أجاب عن أسئلتي بالبساطة والتلقائية نفسها. واستمر الحوار إحدى وخمسين دقيقة.
في طريق العودة طلبتُ رقم هاتفه لأبعث له رابط الحلقة بعد البث، فاعتذر بأنه لا يحفظ رقم هاتفه. قلتُ: "طيب كرت؟". رد ضاحكا: "ولا كرت. كان لديّ كرت واحد قديم مازلت أحتفظ بنسخ منه إلى اليوم لأنني لا أوزعه، فهو لا يحتوي إلا اسمي. أما رقم منزلي فقد تغير، ولم يكن لديّ في ذلك الوقت هاتف نقال". اقترح أن يعطيني رقم زوجته فاستحسنتُ الفكرة، ثم قال: "الدنيا أول كانت سهلة وسلسة. أما فالآن كل شيء سريع". علقتُ مذكِّرًا إياه بشيء من إجابته عن أحد أسئلتي: "في الماضي لكي تُرِي نصك السينمائي لمصطفى محرم كان عليك أن تقطع مشوارًا الى البقال الذي سيعطي النصّ لحماة محرّم، والذي سيستلمه منها بدوره في أول زيارة لها، أما اليوم فبكبسة زر يمكنك أن تبعث نصك إلى أمريكا فيقرأه المرسَل إليه في اللحظة نفسها، وربما يبعث لك رأيه فيه أيضا". هزّ رأسه علامة الموافقة، وحكى لي حكاية ذات مغزى: "كنتُ وزوجتي نحبّ بعضنا بعضا، وعندما عدتُ إلى دمياط بينما كانت هي تدرس في الجامعة في القاهرة لم نجد طريقة للتواصل سوى أن نجلس في الساعة السادسة من مساء كل إثنين ويكتب كل منا رسالة للآخر، ولقد كنا نتواصل روحيًّا في هذا الوقت بالذات بالمعنى الحرفي للكلمة، وكانت رسائلنا تستغرق ثلاثة أيام حتى تصل لوجهتها".
وصلنا فندق هرمز، ودعتُه شاكرًا إياه هذا اليوم الذي منحني إياه، وقفلتُ عائدًا وأنا أنظر إلى ساعة السيارة أمامي، عادًّا الساعات المتبقية على وصول محمود.