يومٌ مع الفرح الغريب
- إلى اليوم الناجح لبيتر هاندكه.
يبدأ اليوم عندما أستيقظ مع شعور بأن للعالم طعم معدني في فمي، أخافُ تلقائيًا من الذهاب والعودة بين المناطق المعتمة والأقل إظلامًا للحياة اليومية، ومع ذلك أطرد الفكرة من رأسي سريعًا، وأقول بأن الأمور ستكون على خير ما يرام أو أنها ستمضي في أسوأ الأحوال، أنتقل من السرير إلى الكنبة، أتمددُ هناك بكسل، مصير جسدي الوجوم التام خصوصا في ظل ما يحدث في غزة هذه الأيام، أراقب كل الحركات الميكانيكية التي أفرضها عليه لكي يتحفز قليلا لبداية اليوم، لكن وعلى طريقة أغنية قديمة لا أعرفها لمن «الصباح يصبح مساءً تحت جسدي».
تحيط بي المكتبة التي أستمر في مراكمة الكتب فيها، والتي رتبتها مؤخرا وفقا لدار النشر، طريقة عجلى تشبه اليأس الذي يحول بيني وبين الأشياء بنعومة واسعة، أفكرُ في تصفح الكتب الجديدة التي ما زالت بأغلفتها على الأرض، أن أبدأ بتصنيفها، ثم توزيعها على الرفوف أو نقلها إلى مكتبي في غرفة النوم إلى جوار الفراش، لأهمية قراءتها سريعا. ربما تكون فعالية مناسبة للبدء باليوم عندما فشلت كل الطرق الأخرى. هاندكه يكتب: «بمجرد أن تلوح لي فكرة اليوم الناجح، لا تستمر لمجرد ساعة، وإنما تمتد لتصبح حقبة كاملة من اليأس والحيرة؟ (أم هل يجب أن أقول بدلا من تلوح لي (تظهر كالشبح) أو (تضللني)» يبدو بأنني أريد أن تكون القراءة وعلى طريقة هاندكه عندما يصف نغمة قفل أزرار القميص في الصباح الباكر بأنها بمثابة صوت الشوكة الرنانة الصباحية. تناسبني القراءة دوما، إذ لا تتطلب مغادرة الكنبة أو السرير.
هو يوم عادي إذن. كان ذلك حتى قرأتُ كتابا عن فلسفة كل من دولوز وغوتاري حول التحليل النفسي، يحدقان في فرويد طويلا، في العلاقة المستقيمة التي كرسها بين كل ما نحن عليه، ما نفعله، ما سنكون عليه في المستقبل وعلاقتنا بالأب والأم والطفولة المبكرة، ينكران هذه الصلة، ويريان تأثيرها لا على حياتنا الشخصية فحسب، بل في المنطق الذي ترسخه من كون للأشياء مراجع مصمتة وصلبة، من كون العالم يغرف ويهرف عودة إلى نقطة يبدأ منها كل شيء، ويمكن بالتالي أن نفسر منها أي شيء. ماذا لو كان العالم أكثر تعقيدا؟ ماذا لو أنه لا وجود للخطوط المستقيمة على الإطلاق؟ والعالم هذا العالم شبكات فوضوية وشائكة بلا توقف، فجأة ومع هذه الفكرة تشرق الدنيا في عيني أو كما يقول هاندكه: «بدا الأمر كما لو أن حبات الفراولة الموجودة على حافة الطريق احمرّت أثناء النظر إليها».
يمكن إذن النظر إلى الوحشية التي تقوم بها إسرائيل في قراءة أخرى، قراءة أتمكن من خلالها من أن أفهم، الفهم الذي سيجعلني أتفاءل بنهاية هذا الاحتلال. بدت لي فكرة العدم ساذجة للمرة الأولى، عليّ أن أستمر وعلى طريقة دولوز وغوتاري في التفكير في ما تنتجه الرغبة، في التعقيد وفي إمكانية أن يكون هنالك قصة أخرى. لأدفئ قدميّ إذن، فأنا أحب الجوارب الطويلة، أكافئ نفسي بارتدائها، وبعدها يمكن أن أدوس بخطواتي على البلاط وربما سأتمكن من الخروج من الشقة إلى العمل. لا على طريقة الشاعرة التركية التي أخبرني عنها عبدالله حبيب، التي كتبت قبل انتحارها «أقطع العالم كله في خطوتين» هنالك أقدام دافئة ستقطع عشرات الخطوات مدفوعة بأن للواقع تفسيرات أخرى ما زالت محجوبة عني، أقدام قد تحملني للقيام بكل الأشغال المؤجلة.
تذكرتُ شيئا بينما أفكر في تدفئة قدميّ الآن، لم يكن مجازا عندما قالت لي صديقتي نوف: «أتعجب من ساقيك، كيف تحملناك» يبدو أن هذه الفكرة تأخذني إلى القدر المنبسط نفسه لهذا اليوم، فرغم نحافة ساقيّ إلا أنهما تحملاني فعلا، الأشياء مرة أخرى لا تبدأ من نقطة مركزية أساسية مسلمٌ بها، من قاعدة ما، أو من منطق مختلق، يمكن للأقدام الرفيعة أن تحملا أحدهم، وأن تأخذانه هنا أو هناك. طرأ على بالي فورا ذلك السؤال في رواية للكاتبة الأمريكية اوتيسا موشفيج عندما قالت لها طبيبتها النفسية: هل تعرفين بأن البقرة تستطيع إما أن تنام واقفة أو مستلقية على الأرض، ترى لو كنتِ كذلك فكيف ستفضلين النوم؟
آه أيها العالم غير الصغير فجأة في عينيّ. يا من يكون فيه النوم أو المشي، أو الذعر أو الإبادة كلها أشياء يمكن إعادة التفكير فيها أخيرا؟! آه أيتها الفكرة التي لمستني كما هاندكه «لمسه شيء آخر.. مثل اللعق الودود من قبل الحيوان الأليف»، سأكتفي أيضا بهذا اليوم العادي، بأقل قدر من الفشل «الفشل غير التام» يكفي بأنه يحدس بأنه أمام هذا الكوكب الغريب قد يتملكه فرحٌ غريب.
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية